وأنت تتجول في شوارع مدينة بغداد، في شمالها وجنوبها وغربها وشرقها، لا تكاد تصدق أنك تعيش في عاصمة عرفتها الدنيا قديماً وحديثاً، فأعداد المطبات لا حصر لها، ونقص خدماتها يستوقفك طويلاً، فأنت تقود سيارتك أو أنت راكبٌ في سيارة تكسي أو سيارات النقل العام تجد نفسك تعيش في إنذار مستمر، تتوقع في كل لحظة اهتزاز مقعدك ويخفق قلبك مع كل فرملة سيارة عند كل حفرة أو مطب، وكأنك تعيش معركة حقيقيَّة على طول تنقلاتك اليوميَّة في شوارع العاصمة، فلا السائق مرتاح ولا الراكب مرتاح ولا السيارة مرتاحة، وهكذا الأمر مستمرٌ منذ سنوات خلت ولا يزال، وأنت تسمع تعليقاً من مثقف أو بقال أو عامل أو موظف أو راكب عابر سبيل انتقادات متعددة الألوان والأشكال والمعاني، والغضب والاستنكار تقرأه على وجوه الجميع، من دون أنْ تجد فرداً واحداً محايداً في هذه القضية.
فالشوارع لم يكسها (الإسفلت) منذ زمن بعيد، والجهود التي تُبذلُ هنا وهناك أكثرها عبارة عن واجبات ترقيعيَّة، لا تسمن ولا تغني من الإصلاح بشيء، أما الحديث عن الشوارع الفرعيَّة في مناطق بغداد السكنية فحالها هي الأخرى تشكو الأمرين.
إنَّ هذا التوصيف ينطلق من المسؤولية الأخلاقيَّة لكل من يشعر بمأساة شوارع العاصمة، ويمثل في الوقت نفسه دعوة مخلصة الى ضرورة الالتفات الى هذا الأمر وبسرعة، فإكساء الشوارع وتبليطها لا يكلف شيئاً مقارنة بمشاريع أخرى، فأغلب المواد الأولية محلية والجهد الهندسي لأمانة بغداد وبلدياتها كافٍ للقيام بالمهمة على وفق جدول زمني وبمراحل معلومة المدة.
عملية سهلة
إنَّ عملية إصلاح شوارع العاصمة ليست بالعملية الصعبة إذا توفرت الإرادة وشمر منتسبو أمانة بغداد عن سواعدهم واتجهوا الى عملهم على وفق خطة هندسيَّة محكمة مدعومة من المؤسسات الرسميَّة والأهالي وأصحاب الإمكانيات الضخمة وكل من يستطيع مدَّ يدِ العون في هذا العمل الجبار، فالمرحلة التي يمرُّ بها العراق تحتاجُ الى تضافر كل الجهود الممكنة، لا سيما أنَّ الشعور بمأساة شوارع بغداد بات حاضراً في ضمير الجميع.
حساب الإمكانيات
قد يأتي أحدٌ ويقول إنَّ التخصيصات المالية لا تكفي للقيام بإكساء وتعبيد شوارع بغداد، والإجابة عن ذلك يمكن أنْ تكون باقتراح وضع خطة شاملة أمام الحكومة، لكي يتم وضع الآليات والحسابات والآراء المختلفة لدعم هذا المشروع، ثم أنَّ الجباية التي تقوم بها أمانة بغداد في الليل والنهار ينبغي أنْ يخصص جزءٌ منها لتغطية التكلفة، فضلاً عن فتح الباب أمام من يريد أنْ يسهم في ذلك، لا سيما المستثمرون الذين يحظون بتنفيذ مشاريع ضخمة من أمانة بغداد ومؤسسات الدولة الأخرى، وكما أشرنا أعلاه فإنَّ أغلب المواد التي تدخل في عملية إصلاح شوارع بغداد هي مواد محليَّة لا تحتاج أكثر من حصرها وتهيئتها وتوظيفها لتحقيق مستوى لائق من الإنجازات.
من أجل بغداد أجمل
ينبغي أنْ يعي الجميع أنَّ العمل من أجل مدينة بغداد مسؤوليَّة أخلاقيَّة وتاريخيَّة، لا سيما إذا علمنا أنَّ ما لا يقل عن ثمانية ملايين نسمة يعيشون في العاصمة، فضلاً عن الداخلين إليها يومياً لمختلف المعاملات، الأمر الذي يحتمُ على صناع القرار والقائمين على خدمة أمانة بغداد أنْ يضعوا أمامَ أعينهم كل صغيرة وكبيرة إيجابيَّة وسلبيَّة من أجل إخراج بغداد بصفتها عاصمة البلاد وواجهتها التاريخيَّة والحضاريَّة وأنْ يعملوا من أجل أنْ تكونَ مدينة بغداد أجمل، والبداية هي في الاعتناء بشوارعها ومتنزهاتها وبناها التحتيَّة، وجعلها أكثر تطوراً وازدهاراً، على أنْ يراعى في ذلك التخطيط العمراني الحضري القائم على وفق القواعد الهندسيَّة والثقافيَّة، لا سيما الحاجة الى ذلك تزداد يومياً مع تنامي أحيائها الجديدة، ما يتطلب الحد من انتشار العشوائيات واستخدام الأراضي الزراعية لأغراض السكن مع وضع قواعد للتخطيط العمراني وتفعيل قوانين السكن الآدمي قبل أنْ تتحول أحياء بغداد الحضريَّة الى ما يشبه الدكاكين، إذ عمل الكثير من الناس على تقطيع الأراضي الى قطع صغيرة تصل مساحة البعض منها الى خمسين متراً، وقد حدث هذا من خلال الزحف تجاه الأحياء الحضريَّة المميزة بمعالمها التاريخيَّة، إذ لا يزال ذلك مستمراً، ما زاد الضغط على الخدمات بأنواعها كافة.
إنَّ أبرز الطرق التي تجعل بغداد أجمل هي أن تكون شوارعها منظمة ومعبدة بالطرق الفنيَّة ذات المواصفات الهندسيَّة المعمول بها دولياً.
إنَّ شوارع بغداد اليوم هي أمانة في عنق أمانة بغداد ينبغي أن تضعها الأمانة ضمن أولوياتها التنظيميَّة وأنْ تضع برنامجاً لهذا الغرض يكون جزءاً من خطة تنمويَّة للنهضة بالمدينة من جوانبها كافة، فلا لا يجوز للمسؤول أنْ يرى شوارع العاصمة يعتريها الخراب وهو جالس على كرسي المسؤوليَّة صامتاً.
إنّ معالجة هذا الموضوع ليست صعبة، فالاستعانة بذوي الاختصاص من مهندسين وخبراء بيئة ورجال مرور ومختصين في الانثروبولوجيا وعلم الاجتماع وغيرهم، يتيح المجال لوضع خطة متكاملة للنهوض بواقع المدينة ابتداءً من إصلاح الشوارع والنهوض بالواقع الخدمي للمواطنين الى تأسيس شبكة السكة الحديد (مترو) التي تربط مناطق العاصمة مع بعضها البعض مخففة من الزحام الذي يضرب العاصمة من أقصاها الى أقصاها، لا سيما أنَّ مدينة بغداد هادئة بطبعها على الرغم من كثافتها السكانية واتساع مساحتها بأبنيتها الأفقيَّة، كل هذا من أجل أنْ تكون مدينة بغداد ،كما عهدناها مدينة السلام والمحبة والتعايش السلمي.