العرض المسرحي بين التبادل والجماعة

ثقافة 2025/01/21
...

  د. صلاح حمادي الحجاج 

أكدت ايريكا فيشر في كتابها (جماليات الأداء) على مصطلحين مهمين هما (الأداء والعرض) والمقارنة بينهما والعلاقة التي تحكمهما، إذ لا يستند الأداء إلى النص المستخدم والمعد مسبقاً- النص الذي يمكن استخدامه مراراً وتكراراً، بل يتولد فقط في الآن، من خلال اللحظة التي تولد مع الحضور الجسدي المتزامن للعارضين والمتفرجين، وبالتالي يخلق الأداء لمرة واحدة، ولا يمكن استعادته أو تكراره.

أيّ أنّ الأداء هو عمليَّة تتولد بين المشاركين، نتيجة المشاركة في الجماعة والممارسة والتلامس والمباشرة ما بين اللاعبين والمتفرجين، ومن داخل ردود أفعالهم وتفاعلهم ومن ثم الانتقال إلى تبادل الأدوار.

وظاهرة "تبادل الأدوار"، تعني عمليَّة تحول للعلاقات التقليديَّة سواءً كانت ذاتاً أو موضوعاً، أي علاقة اللاعب مع المتفرج، وتتم هذه العمليَّة حسب رأي "ريتشارد شيشنر" من خلال شرطين أساسيين:

أولهما: تحول موضوع المسرحيَّة الى حدثٍ اجتماعيٍ من خلال إحساس المتفرج بأنه حرٌّ في التدخل والمشاركة في العرض.

أما ثانيهما: أنْ تتم المشاركة وفق نموذج ديمقراطي من خلال دخول المتفرجين ليحلوا محل العرضين بانضمامهم للقصة، وهذه العمليَّة تعتمد بالمقام الأول على الحضور الجسدي للأطراف الفاعلة "اللاعبين والمتفرجين"، بمعنى أنَّ التركيز على عنصر تبادل الأدوار يعطي خصوصيَّة لكل عرضٍ، ما يجعل ذلك مفيداً لجماليات الأداء، ومن خلالها يتم الكشف عن العمليَّة الجماليَّة للعرض التي تعتمد على التوليد الذاتي والتغيير المستمر.

أما عن مفهوم "الجماعة"، فهي عمليَّة إنشاء جماعة من العارضين والمتفرجين من خلال الحضور الجسدي، وهي عمليَّة مؤثرة للغاية في توليد حلقة التغذية المرتدة، التي يظهر فيها الترابط بين الجماليات السياسيَّة والاجتماعيَّة، ومفهوم الجماعة يعني أيضاً اعتماد بنية مسرحيَّة جديدة ونوعٍ جديدٍ من فن التمثيل الذي يناسبها دمج العارضين والمتفرجين معا في حالة نشوة، هذه النشوة تأتي إلينا إذا كنا في حالة جماعة نتحرك في وحدة ما، ومُشكلة في لحظة آنيَّة واحدة، عن طريق التحرك باستمرار من داخل العناصر الماديَّة المختلفة، كالحضور الجسدي للمشاركين "عارضين ومتفرجين"، والفضاء الذي يحتويهم، فتتحول الحدود ما بين العارضين والمتفرجين وبين الصالة والخشبة الى جماعة أو كتلة واحدة، وهذا العمليَّة لا تحتاج الى عنصر تبادل الأدوار التي من خلالها يتم تحويل المتفرجين الى عارضين، بل بالعكس يتمُّ تدمير التناقض بينهم وجعلهم عنصراً واحداً متناغماً.

 وعند الانتقال إلى "التلامس" يلاحظ أنَّ آليَّة الحضور الجسدي للعارضين والمتفرجين بوصفها أساساً لإنشاء جماعة من أفراد الطرفين تعطي إمكانيَّة التلامس بين أحد العارضين وأحد المتفرجين والعكس صحيح، وهذه العمليَّة تتمُّ بشرط دخول كلا الطرفين داخل الفضاء نفسه واللحظة الزمانيَّة ذاتها، فقد تناقضت النظريات المسرحيَّة ما بين القبول والامتناع، فمنهم من اعتقد أنّه بالتلامس يفقد المسرح خصوصيته بسبب اختلاط المتفرجين بالعارضين، الأمر الذي يؤدي الى التخلي عن الأزياء وبعض الإكسسوارات الخاصة بشخصيات العرض، بينما طرفٌ آخر أيد العمليَّة، واعتقد أنها ذات منفعة من خلال كسر الإيهام وجعل المتفرج أقرب للحدث بتلامسه مع العارض، بوصف أنَّ العارضين أرادوا من خلال فكرة التلامس تدمير تعارض ثنائيَّة الواقع والخيال وكذلك القضاء على الحدود الفاصلة بين الدائرة الحميميَّة والدائرة العامة، من خلال إرساء عوامل وحقولٍ جديدة داخل المسرح تسمح للمتفرجين بخوض تجربة جديدة داخل هذا السياق.

وعليه إنَّ الحضور الجسدي للعارضين والمتفرجين في أكمل نماذجه هو الذي دفع الحياة في العرض وخلق إمكانيَّة وقوع العرض، ووضع شروطه الجماليَّة.

وأخيراً "المباشرة"، إذ تتمحور مركزيَّة العرض المسرحي حول الحضور الجسدي للمتفرجين والعارضين الذي من الممكن أنْ يسمى بالمباشرة، بوصف أنَّ الحضور الجسدي نوعٌ من التحرر وهما وجهان لعملة واحدة، وهذا الجدل قد تزايد بعد ظهور الإعلام والسينما بشكل واسع، وهنا ظهر الخلاف ما بين العروض المباشرة والعروض الإعلاميَّة المنقولة، إذ إنّ العروض الإعلاميَّة لا تسمح بتبادل الأدوار أو الجماعة أو الملامسة، لأنها لا يمكن أن تحدث إلا في العروض المباشرة، التي في العادة تكون المشاهدة المباشرة للأجساد الحيَّة للعارضين أمراً مفروغاً منه في المسرح، وكذلك مشاركة الحضور الجسدي بينهم وبين المتفرجين الذي لا يتحقق في السينما أو التلفزيون.

بمعنى أنَّ "ايريكا" قد أكدت أهميَّة الأداء بوصفه فعلاً جماعياً لا يقتصر فقط على الممثل، بل إنَّه فعلٌ تشاركيٌّ قائمٌ على مجموعة من الأدوات التي من خلاله تسمح للمتلقي بحريَّة تامة المشاركة الفاعلة في إنتاج العرض المسرحي التفاعلي.