حُبّ الله يجعل الدين دواء وشفاء

ثقافة 2025/01/22
...

  د. عبد الجبار الرفاعي


 تقول طبيبة إنها كانت تقرأ كتبًا تتحدث عن مشاهد عذاب القبر، تزعم هذه الكتب بأن القبر مملوء بالأفاعي والعقارب والعفاريت والنيران المتقدة، وأن الميت في الليلة الأولى لدفنه يجد نفسه مقيمًا بمعية هذه الكائنات المريعة المتوطنة في قبره إلى ساعة البعث والنشور، وهو لا يقوى على حماية روحه من عذابها المهول. حدثتني هذه السيدة عن حالات روع واضطراب وكوابيس سوداء تطاردها في نومها كلَّ ليلة، فهي بعد مدة قليلة من النوم تفرّ فزعة مرتعشة، ولو كانت متعبة جدًا. تلبث في فراشها ترتجف، وكأنها تشاهد جسدها ممددًا في القبر وتنهشه الأفاعي والعقارب، وهو منبوذ ذليل في قعر هذه الأهوال والنيران.

 سألتها: كيف تمكنتِ من الخلاص؟ وكيف أضحت حالتك النفسية اليوم؟ أجابت: أنقذتُ نفسي حين تركت قراءةَ تلك الكتب، وانتقلت إلى قراءة كتب أرى صورةَ الله فيها بوصفه إلهًا للرحمة، كما يصف ذاته: "وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ"، الأعراف 156، وإلهًا للمحبة، كما يصرح لنا: "يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ"، المائدة، 54، وإلهًا هو: "نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ"، و"نُّورٌ عَلَىٰ نُورٍ"، النور، 35. قراءةُ هذا النوع من الكتب النورانية دعتني لإعادة قراءة القرآن الكريم بعينين مضيئتين، وجدت نفسي كأني أقرأه لأول مرة في حياتي، رأيت في هذه القراءة صورة كانت محجوبة عني، حجبتها كتبٌ رسمت في ذهني صورة كئيبة لله. حيت قرأت كتابه المجيد بعينين مضيئتين اكتشفت الحضور المبهج لأنواره الأبدية، وكثافة رحمته واتساعها وشمولها لكلِّ شيء. شهود الأنوار الإلهية حرّر قلبي من الهلع، ومكّنني من أن أرى تجليات جماله واشراقاته في الوجود، وشُفيت بهذه الرؤية للوجود من التشاؤم والفزع، وامتلأت روحي سكينة وقلبي طمأنينة، وتخلصت من الكوابيس المريعة في منامي، وصرت أنام لحظة أضع رأسي على الوسادة. أدركت أن صورة الله بوصفه إلهًا للرحمة والمحبة منبع سلام الذات وسكينتها، خلافًا لصورة الله المظلمة التي تثير الوجل والقلق والفزع في نفس الإنسان، وتنفّره من الله. صورة الله النورانية مبهجة، تتلهف القلوب إلى جمالها كتلهَّف المحبّ لرؤية محبوبه. الجميل لا يفزع منه أيُّ إنسان، الجميل لا يصدر عنه إلا ما هو جميل.

  لم يخلق الله الإنسان ليجعله عدوه، ولم يخلقه ليخوض معركة معه، ولا بهدف التلذذ بأذاه والتنكيل به وتعذيبه. الإنسان كائن رفعه الله لمقام لا يرقى إليه موجود غيره، خلقه الله الإنسانَ مكرمًا منذ ولادته، وأنزله بمقام وجودي لا يرقى إليه أي مخلوق آخر في الأرض وفي أي كوكب في الكون، ومقتضى التكريم الإلهي أن تنبثق صلة الله بالإنسان من المحبّة لا غير.كلمات الحُبّ الصادقة تداوي جروح الروح، جربت الحُبّ فرأيته أنجع دواء للقلوب والأرواح. صناعة الحُبّ أسمى غاية في حياة الإنسان، المعنى الذي يضفيه الحُبّ لا يضفيه أيُّ شيء في الحياة. حاجة الإنسان للحُبّ من أعذب هبات الله إليه، الحُبّ هو الحالة المبهجة الوحيدة التي لا بديل يكافؤها أبدًا، حتى الإيمان بلا حُبّ حالة منطفئة بلا شعلة حيّة. محيي الدين بن عربي يجعل مقام المحبّة شريفًا، ويراها أصل الوجود، إذ يقول: "المحبّة مقامها شريف، وهي أصل الوجود" . المحبّة هي الطاقة المحركة للموجودات، والجسر الوجودي الرابط بين الله وعباده. كلُّ موجود يسعى عبر الحُبّ للعودة إلى أصله، وأصل المخلوقات هو الله،كلما ازداد الإنسان حُبًّا ازداد من الله قربًا. يقول ابن عربي: "عَيْن محبّته لعباده عَيْن مبدأ كونهم، متقدميهم ومتأخريهم إلى ما لا نهاية له، ونسبة حُبّ الله لهم نسبة كينونته معهم أينما كانوا... فكما أنه لا أول لوجوده سبحانه، فلا أول لمحبّته عباده سبحانه، وذكر المحبّة يحدث عند المحبوب عند التعريف الإلهي لا نفس المحبّة، ومن وجه آخر إذا قلنا: إنّ للحُبّ الإلهي بدءًا، فبدؤه النفس الإلهيّ عن رؤية المحبوب، فصِف الحُبّ بما شئتَ من حادث وغيره، ليس الحُبّ سوى عين المحبّ، فما في الوجود إلا محبّ ومحبوب" . 

معرفة الله غير حُبّ الله، معرفة الله أعني بها الادراك العقلي وليس الشهود القلبي. حُبّ الله سير القلب وسفره إلى الله، في رحلة يسعى فيها القلب أن يصير مرآة تنعكس عليها الأنوار الإلهية. معرفة الله هي تدبر العقل وتأمله وتفكيره في خلق الله وآياته واعتقاده بوجوده. المتكلمون واللاهوتيون يعرفوننا على أدلة وجود الله وصفاته، لكن لا يوصلنا إلى الله إلا البصيرة الروحية، ولا تتكشف البصيرة وتنجلي من دون حُبّ الله. لا يرتوي الظمأ الأنطولوجي بمعرفة الله، بل يرتوي هذا الظمأ بحُبّ الله ووصاله. مثلما لا يتكرّس الإيمان بمعرفة الله، بل يتكرس بحُبّ الله. سفينة السفر إلى الله هي حُبّ الله، لا معرفة الله بمعناها الكلامي. ولا يكون الدين دواء وشفاء إلا بحُبّ الله، ولا تكفي لذلك معرفة الله. القلب الذي خطت عليه أسرار الحُبّ الإلهي قلبٌ لا يكفّ عن انشاد ترانيم حُبّ الله والإنسان والعالم.

  خلق الله الإنسانَ وجعله محتاجًا لصلة وجودية به، وجود الإنسان هشّ فقير، لا يثري وجوده ويحرّره من اغترابه إلا الصلة الوجودية بالله المكتفي بذاته الغني عن العالمين. لا أظن هناك إنسان يستغني عن الله، وإن تنكّر لذلك يحاول الارتباط بمطلق موهوم سواه. الجيل الجديد يريد أن يرى صورة بهيجة مضيئة لله، يفرح ويبتهج عندما يشهد أنوارها. لا جيل الآباء ولا الجيل الجديد ضدّ الله بوصفه نورًا، وإلهًا للرحمة والمحبة. تفشي اللادينية لدى الجيل الجديد نشأ من تسلط الصورة المظلمة الكئيبة لله التي رسمتها تفسيرات عنيفة، حجبت أنواره المشرقة في آيات القرآن عن هؤلاء الذي يقرأونه بعيون بعض المفسّرين، وحجبتها مواقفُ وممارسات رجال سلطة ينطقون باسم الله في أحاديثهم زورًا، وهم أبعد العباد عن الله، لأنهم ينفّرون العباد منه في مواقفهم وسلوكهم، ويقطعون الطرق إليه بفسادهم.

  الحُبّ والرحمة والحقّ والعدالة والسلام ضمانة أساسية لحضور الدين المؤثر الفاعل في الحياة الفردية والمجتمعية. كلُّ ديانة تحرص على إنتاج الحُبّ والرحمة وتسعى لتحقيق الحقّ والعدالة والسلام، وتعلنها بوصفها الهدفَ الذي تسعى لتحقيقه في الحياة، ويجسّده أتباعها في سلوكهم، تتلهّف القلوب للانتماء إليها، ويتأبّد حضورها في الحياة، وكلُّ ديانة تحرص على إنتاج الحرب والانشغال بصراعات السلطة والثروة، تنفر القلوبُ منها ومن أتباعها. ما يربحه كلُّ دين رسالتُه الحُبّ والرحمة والعدالة والسلام يخسره كلُّ دين رسالته الحرب والغلبة على السلطة، واكتناز المال والاستيلاء على الثروة، واستعباد الإنسان. 

    بعد نصف قرن من تعلّم وتعليم علوم الدين كثّفت كتاباتي على رسم صورة نورانية لله، في ضوء ما رسمها الله لذاته في آيات القرآن الصريحة. حاولت أن تكون كتاباتي رسائلَ إيمانٍ ومحبّة وتراحم ومعرفة، باقتباس صورته النورانية، والكتابة عنها بتنويعات يتكشف فيها شيءٌ من أبعادها في كتابه المجيد، والإشارة إلى تجلياتها الساطعة في الوجود. رأيت هذا النوع من الكتابات يوقظ صوت الله في الأرواح الكئيبة، ويسعف الضائعين في وديان التيه ليدلهم على الله، ويريهم إشراقاته الأبدية، ويمكّنهم من تذوق محبته وشهود أنواره. لا أعرف هدية أقدمها لأحد أثمن من المحبّة، ولا أتقن مهنة في الحياة أفضل من صناعة المحبّة. المحبّة دواء لكلِّ داء أخلاقي، المحُبّة بلسم يسعف القلوب الجريحة بأوجاع الحياة المريرة، ذلك ما انتهيت إليه بعد مخاضات مضنية وتجارب مؤذية بتجرع ما تضج به الحياة من شرور تنهش الأرواح.

 أوصيت أبنائي: لا أحتاج منكم أي شيء مادي، ما أحتاجه هو صيانة الميراث الإيماني والأخلاقي والمحبّة والتراحم والصفح في مواقفكم وسلوككم في حياتكم العائلية، وفي التعامل مع الإنسان بوصفه إنسانًا مكرمًا محترمًا، لا بوصفه متفوقًا بمعتقده أو ثقافته أو عرقه على غيره من بني آدم. ما يهمني هو تحقّق الإيمان والمحبّة والأخلاق والتهذيب واللطف والامتنان في مواقفكم وسيرتكم.