كوخ الذكريات ودخان الأحلام

جودت جالي
رواية قصيرة جميلة عنوانها "أحلام القطار" للكاتب الأميركي دينيس جونسن (1949-2017)، مكونة من مقتطفات من حيوات شخصيات، أو على الأصح نهايات حيوات شخصيات، رابطها المرن الانتقائي هو السيرة غير المنتظمة بتسلسل زمني لروبيرت ﮔﺭنيير على وفق مسار سردي يتنقل بنا بين أماكن يمارس فيها أعمالا يدويّة متنوعة أكثرها مع جماعات قطع الأشجار لمد خطوط السكك وبناء الجسور على الوديان والأنهار في فصلي الصيف والخريف فيجمع مقدارا من المال يمكنه من العيش حين يعود إلى كوخه في الغابة في فصلي الشتاء والربيع.
هذه النوفيلا، التي اختارتها صحيفة النيويورك تايمز في العام 2011 كأفضل كتاب، تحدثنا من خلال تصويرها جوانب من حياة العامل اليومي روبيرت ﮔﺭنيير في الغرب الأميركي بداية القرن العشرين، عن رجل عادي في زمن استثنائي، عن الهزائم الشخصية الصادمة والتحولات الجذرية في أميركا، ونشهد عبرها اختفاء حياة إنسانية.
إن الحيز المكاني، المثابة السردية، هذا الكوخ الذي بناه ﮔﺭنيير في أرض اشتراها هي جزء من غابة ليعيش حياة عائلية وادعة، فتزوج فتاة فقيرة طيبة انجبت له طفلة وكان هو يذهب للعمل فترة ويعود إليهما بما كسب وما يستطيع جلبه وشراءه، إلى أن يأتي يوم يشب حريق في الغابة وهو بعيد عنهما وعندما بحث بين الناجين من الحريق حيث تجمعوا لم يجدهما فيذهب بينما الغابة لا تزال تحت آثار الحريق ومشبعة برائحة الدخان فيجد كوخه قد تحول إلى رماد ولا أثر لزوجته وابنته أينما توجه للبحث.
يبني كوخه من جديد شيئا فشيئا ليكون ليس كما كان حيزا للأمل والاستقرار بعد عناء بل لتناوب الذكريات عن طفولة مشردة وكدح واستذكار لأشخاص تقاطعت طرقه مع طرقهم في الحياة، يحدثنا السارد عن موت العامل الصيني المتهم بسرقة أشياء من مخزن للسكك وقد أعان ﮔﺭنيير عمالاً في محاولة قتله وخطر على باله بعد سنوات أن الصيني دعا عليهم في صلاته فكان أن فقد هو عائلته. بالمناسبة سنجد في أعمال دينيس جونسن الكثير من الإشارات والعبارات ذات العلاقة الدينية والإنجيلية ويذهب الرأي عند بعض النقاد إلى أن عنوان رواية (شجرة الدخان) 2007 له ثلاث إحالات انجيلية واحدة منها في نشيد الانشاد.
كذلك نشهد موت العامل المتنقل وليم كوسويل هالي الذي عثر عليه ﮔﺭنيير عندما كان لا يزال طفلا، وهو ذاهب للصيد، وجده جالسا مستندا إلى شجرة عند نهر كوتيناي وكان قد أصابه متشرد آخر بجرح قاتل وأخذ نقوده وهرب. ذكر ﻠﮔﺭنيير اسمه واسم الجاني وطلب منه أن يبلغ الشرطة وحكى له وهو يلفظ أنفاسه، حيث لا يوجد قس، جانبا من حياته الماضية بمثابة اعتراف يتضمن مضاجعته ابنة أخيه وحملها الذي دفع أبيها لقتلها. ثم توفي بعد أن شرب ماء جلبه له بحذائه من النهر. غير أن ﮔﺭنيير الصغير لم يبلغ أحدا. كما نشهد الموت المتزامن تقريبا للعجوزين الصديقين اللذين قضيا حياتهما بلا عائلة يعيشان في معسكرات العمل أو يتجولان بحثا عن عمل. كأن موت آرن عجّل بموت بيلي. حتى كوتيناي بوب (كوتيناي هو أيضا اسم قبيلته الهندية واسم المنطقة والنهر الذي يجري فيها) صديق ﮔﺭنيير والذي لم يكن شاربا للخمر لقي نهايته حين احتال عليه بعضهم وقالوا له بأن في الجرة خليط من البيرة والليمون الذي سيبطل مفعول الخمرة. سكر الهندي سكرة شديدة وذهب ليتمدد على خط السكة فمر عليه قطار بعرباته ومزقه قبل العثور عليه وجمع أشلائه في كيس وبعدها قضت قبيلته فترة تبحث في المكان عن بقايا له ربما لم يرها أحد لصغرها.
مع تقدمه بالعمر ورؤيته ميتات كثيرة أصبح ﮔﺭنيير يقضى وقتا أطول في الكوخ حيث لا يكون معه غير كلبة ضالة وجدت عنده ملاذا تأوي إليه، وتغادره متى شاءت تاركة ﮔﺭنيير يفكر بأنها ربما قد جذبها عواء ورائحة ذكور الذئاب فتقضي أياما وليالي معهم ثم تعود ذات مرة ومعها جراء قال له صديقه الهندي يوما بأنها ربما من الذئاب، غير أن هذه الجراء ما أن تستطيع الاعتماد على نفسها حتى تطردها أمها.
يقضي الليل وهو يخشى أن يحلم، وإذا حلم فإنه يحلم بالقطارات، وذات مرة حلم بقطار معين، ذلك القطار الذي جاء راكبا فيه وهو طفل لا يدري من أين ولا يدري كيف أصبح في بيت ما بدا له أنه عمه ولم يعلمه أحد كيف فقد أبويه. يشم وهو يحلم رائحة فحم القطار ويرى مشاهد من طفولته ثم يفز ليدرك أنه كان يسمع صوت قاطرة من بعيد وهو يحلم. ثم يأتيه ذات ليلة طيف زوجته وتحكي له أنها هربت بطفلتهما إلى النهر حاملة ما تستطيع حمله مع انجيل أملت أن يخلصها وابنتها، ولكن شق عليها حملها فرمتها والانجيل لتبقى حاملة علبة شوكولاته وابنتهما، غير أن النار حاصرتها، سقطت عند النهر وأصيبت وأصبحت عاجزة عن السير فيما النار تقترب فأفلتت الطفلة لعلها تنجو هي على الأقل من الموت، ولم تعد تدري ما حصل، " خسرت مستقبلها للموت، وخسرت حياتها للطفلة". لم يظهر له طيف زوجته بعد ذلك أبدا في ظلام ذلك الوادي " المليء بدمدمة القطارات البعيدة وبعواء جوقات الذئاب وعوائه هو الذي اعتاد على ممارسته كنوع من الترويح عن النفس".
إن الرواية أيضا قصة طريق فالتنقل هو جزء من ثيمتها، وهي قريبة في فصول معينة من قصص كورماك مكارثي، مثلما يمكننا أن نجد ثيمة الطريق عند جونسن في كتب أخرى ففي مجموعته القصصية الأولى(ابن يسوع) 1992 نقرأ (حادث سير أثناء الركوب متطفلا) و(رجلان) وغيرها.
في المدينة حيث صار ﮔﺭنيير يقيم شتاء وخريفا يمارس عمله الجديد النقل بعربة ذات فرسين، يلتقي بإثنين من معارفه قديما واللذين يعانيان، مثله، من خيبة الماضي ويرغبان، مثله أيضا، بمغادرة فشل الحاضر. إيدي الذي خسر نقوده على النساء والخمر والقمار، وكلير الارملة حديثا ولديها طفلان وترغب في الانتقال إلى مدينة أخرى يحمل ﮔﺭنيير أثاثها وفوقه طفلاها وكلب صغير في عربته فيما يقلّها إيدي في سيارته الفورد ويسوقها في الطريق مراعيا سرعة عربة ﮔﺭنيير. لكن السرد لم يوصلنا معهم إلى غاية بل ينقلنا فجأة إلى الكوخ حيث نجد ﮔﺭنيير وحيدا يحدث نفسه ولا أحد يسمعه.
في الفصل ما قبل الاخير يخيل ﻠﮔﺭنيير، إلا أن السارد يروي لنا ما يجري على أنه واقع وليس تخيلا، يرى ابنته بهيئة " فتاة ذئبة" صغيرة تأتي إلى باحته وإحدى قوائمها مكسورة فيجبرها، وفيما هو نائم قربها، تغادر قافزة من النافذة وتختفي في الغابة.
لقد عاش ثمانين عاما، كانت له فيها حبيبة واحدة، زوجته ﮔﻼديس، وامتلك فدانين وحصانين وعربة، لم يسكر أبدا، ولم يشتر سلاحا، أو يتكلم بتليفون. ركب القطارات بانتظام، والسيارات مرات، والطائرة مرة، وفي العشر الآخرة من عمره تفرج على التلفزيون كلما ذهب إلى المدينة. لم يعرف شيئا عن والديه، ولم يخلف ورثة. عرف كل سكان تلك الانحاء تقريبا روبيرت ﮔﺭنيير ولكنه حين مات وهو نائم بقي ممددا في كوخه طوال الخريف والشتاء ولم يفتقده أحد، وذات يوم عثر عليه متنزهان فجلبا طبيبا كتب شهادة وفاة، وحفر الثلاثة بمجرفة وجدوها في المكان قبرا يرقد فيه الآن روبيرت ﮔﺭنيير.