جمبد.. التي تومض في رأسي

ثقافة 2025/01/23
...

  عبد الخالق كيطان 


جمبد التي تومض في رأسي..هي ليست قصيدة أو حلماً عشته. إنها واقع بعيد جدا أحاول استعادته دائما. هل هنالك سبب وراء ذلك؟ لا أدري. كما أن جمبد نفسها غابت. ضاعت في زحام الواقع والخيال. ولكم أحزنني أنني إلى اليوم لم أعثر على أي إشارة منها. لقد مرّت سنوات طويلة على ذلك، فهل أطمح بأن تقرأ جمبد هذه الكلمات؟ لم لا. فأنا في الأول والأخير لست سوى صانع كلمات.

تعرّفت إلى جمبد عندما كنت في الثامنة من عمري. أقل أو أكثر قليلا، لا أدري. كانت هي بعمري تقريباً أيضا. كان الأجدر بي أن أقول: عرفتها، بدلاً عن تعرّفت عليها. فلقاؤنا كان صدفة محضة. هو من نوع الصدف التي لا تتكرر كثيراً في حياة الواحد منّا. حتى اسمها كان غريبا. وغريب جدا في المجتمع الذي نشأنا فيه. لم يكن اسمها من الأسماء المألوفة والمتداولة في محلّتنا. وجه أبيض مدوّر مركّب على جسد قصير ممتلئ. عيناها زرقاوان بشدّة وجديلتان ترقصان على كتفها. هل كانت ترتدي صليبا ذهبيا صغيرا يتدلى على صدر طفولتها؟ 

لم يكن البيت الذي تعيش فيه بعيداً عن بيتي، ولهذا أوصلتها إلى بيتهم ذلك المساء، بعد انتهاء حفل مدرسي في منطقة أخرى غير المحلّة التي نسكن فيها. كانت مثل هذه الاحتفالات المدرسيّة رائجة. ولكن احتفال اليوم انتهى متأخراً بعض الشيء، ولأننا، جمبد وأنا، من منطقة واحدة فلقد عرضت عليها مرافقتها إلى بيتها ووافقت. ولكن هل كانت الوحيدة من أبناء محلتي حاضرة في هذا الحفل؟ من المؤكد أنني اخترتها دونا عن سواها لسبب ما. شعرت بأنني قادر على حمايتها ومرافقتها حتى باب منزلها. لقد اخترقتني بشدة. كانت مختلفة تماما عن الآخرين. ولم أكن طفلا مشاكسا، بل العكس هو الصحيح. 

ولكن، هل كانت هذه هي المرّة الأولى والأخيرة التي ألتقي فيها جمبد؟ الحق أقول أنني لم أعد أذكر. ولكن خطواتنا الصامتة من مكان الحفل إلى بيتها تملأ ذاكرتي. كنت مجبرا، بفعل رجولة الصبي، وإعجابه أيضا بهذه الفتاة المضيئة، على مرافقتها ذلك المساء وضمان وصولها سالمة إلى بيتها. صمت مطبق بيننا لا تسمع ما يقطعه غير لهاثنا بسبب المسير السريع، والمرتبك، لكلينا. لم ألمس يدها قط. كنت احافظ على مسافة قريبة منها لكي تدخل دقات قلبها المتسارعة إلى رأسي بيسر وسهولة. وكنت أتنفس رائحتها بنشوة غريبة. 

الشوارع لم تكن مضاءة بشكل كامل. والخوف كان يتسلل إلى نفسي من حيث لا أدري. كانت تنطلق من البيوت التي نمرّ بها روائح إعداد العشاء التقليدي؛ بطاطا مقلية، كباب منزلي، طماطم بالزيت، تنور مستعر، شاي…الخ. على رأس الشارع الذي يقع فيه بيت جمبد ثمة منزل لعائلة امتهنت بيع الحشائش والبرسيم لأصحاب الحيوانات الأليفة، خاصة الخرفان. رائحة تلك الحشائش قوية للغاية. صاحب المنزل رجل قصير يضع غطاء على رأسه وقد أنهى للتوّ رشّ بضاعته المكدسة على عربة يقف الى جانبها حمار بالماء. كانت الرائحة منعشة. استدرنا لننعطف وصولا الى المنزل حيث وصلنا أخيرا.

كان المنزل صامتا مثلنا تماما.. مدخله مظلم. وبابه الخشبي العتيق الذي يحيط به جداران من الطابوق الأصفر المتهالك، مغلق. وعلى الأرضية يمتدّ حجر الفرشي بانتظام إلى الداخل. فتحتْ الباب، وبدا ضوء خافت قادم من الداخل مشكلا مع جسدها القصير ظلا وضوءا اخترق كياني كله. أردت الوقوف طويلا هناك، ولكنها أرسلت لي نظرة خجلى وهي تتوغل إلى الداخل وتغلق الباب من ورائها. ساد الظلام من جديد. وعدت إلى طبيعتي الحذرة، أو الخائفة، من هذا الظلام الدامس. ربما ركضت باتجاه بيتنا حينها، خاصة وقد كان عليّ تجاوز بضعة درابين لكي أصل إلى المنزل. في البيت كانوا يستعدون لتناول العشاء. ولكنني لم أكن في وارد الأكل. انا شبعان جدا، بل أنني قلق وفي حيرة من أمري دون أن أعرف لماذا.

كانت جمبد، الطفلة المسيحيّة التي لم أرها قط بعد ذلك، قد انارت الطريق الذي قضيناه معا بسطوع ورأفة في آن واحد. طريق كنت مشيتها، قبلها وبعدها، مئات المرات، وكان مظلما في كل مرّة إلا مرّة جمبد. لا أفضح سرا حين أقول الآن، وأنا على مبعدة حوالي خمسة عقود من الزمن عنه، أنني كنت أخاف من الشارع الذي كان بيت جمبد يقع فيه. لا أشعر بالأمان إلا في الشارع الذي يتوسطه بيتنا. المنطقة كلها كانت منطقة شقاوات وأنت لا تستطيع أن تحزر ردة فعل أحدهم إذا ما عبرت منطقتهم في وقت المساء والشوارع مظلمة. قررت أن أتفقد جمبد، وأقصد المرور على منزلها لعليّ أحظى برؤيتها، في النهارات. ولكنها اختفت تماما. من المؤسف أنني لم أكن أملك صداقات في شارعهم. وبالتي لم أكن أعرف طريقة للسؤال عنها. 

اختفت جمبد. كنت امرّ على منزلها بشكل شبه يومي. غيّرت طريقي من المدرسة إلى البيت كي أمرّ على ذلك المنزل الذي انطبع في رأسي ولكن دون جدوى. لقد ذابت جمبد. حدّ أنني اعتقدت أنها لم تكن موجودة أصلا. ولكن كيف اخترعتها في ذلك الزمن؟ ولماذا ظلت تبرق في رأسي بالرغم من هذه السنوات الطويلة وبعد المسافات. لقد نسيت من مرحلتي العمرية التي تبرق فيها جمبد الكثير من الأحداث، وحده الطريق الذي سلكناه أنا وجمبد يحضر. طريق ما كنت لأدعه ينتهي وأنا بهذا العمر.