بغداد: مآب عامر
الكثير من نقّاد الفن في "الرسم والنحت والتصميم وغيره" ومتذوقيه ينظرون إلى الهندسة المعماريَّة كمهارة فنيَّة وتقنيَّة تخدم غاياتٍ، فضلاً عن أنَّها نفعيَّة تتمثلُ بالبناء، فإنَّها أيضاً تعبيريَّة وجماليَّة في الفن الحديث، ومن هنا يرى الناقد الفني خضير الزيدي إلى أعمال شيخ المهندسين المدنيين وعراب بغداد المعماري هشام المدفعي بأنها ذات قيمة رمزيَّة
وروحيَّة.
ويقول الزيدي: ما أنْ يذكر اسم هشام المدفعي الذي ولد في بغداد عام 1928 حتى تنهال في ذاكرة المرء سيرة عائلته الفنيَّة المتنوعة، تلك الأسرة التي انفردت بطابعها الفني موسيقياً ومعمارياً وفنياً، وما أنْ نذكر شيخ المهندسين هشام المدفعي تحديداً حتى يعود بنا التاريخ إلى ما أشرف عليه من نُصبٍ لمَّا تزل قائمة في بغداد، ولمَّا تزل حيَّة، حيث طابعها التصميمي ومكانتها في فن النحت.
ويضيف: فقد عمل مشرفاً على أهم ما تحظى به بغداد من جمالٍ فني اليوم، وهما نصب الشهيد والجندي المجهول، وما جمال شارع حيفا وسط بغداد إلا دليلٌ حاضرٌ في قيمة ما أشرف عليه من إنجاز
عمراني.
ويتابع الزيدي، أنَّ "الملفت في شخصيته أنه لم ينصرف لقوميته الكرديَّة في حدود التعامل الإنساني والفني مع، بل بقي وفياً لهويته العراقيَّة حتى وهو في أشدّ حالاته المحرجة حيث الغربة في أوروبا، وكان لكتابه (نحو عراق جديد.. سبعون عاماً من البناء والإعمار) الفرصة المثمرة ليزودنا بمعلوماتٍ قيّمة عن منجزه والإحساس الملفت بالمعاينة بما تركه العراق من معالم ومشاريع هي في الحقيقة امتدادٌ لتاريخ من المراحل المهمَّة في الطابع العمراني".
ويوضح: "لقد كان على كلُّ من يقف أمام مساجد العاصمة بغداد أنْ يتذكرَ جامع "الحاج بنيَّة" المعروف، فهذا الصرح الإسلامي لم يكن بهذا الشكل لو لم يخرج من بين يدي المدفعي بكل قيمته الرمزيَّة
والروحيَّة.
أما الناقد والكاتب د.نصير جابر، فيقول: "قد تبدو الهندسة بمعادلاتها الصارمة والمعقدة ونسبها المتقنة والمضبوطة أبعد مجالٍ عن حيز الفن، لأنَّ الطبيعة المنفلتة للفن تحتاج قدراً هائلاً من الخيال والتمرّد وتجاوز الحدود، وخرق المألوف، لكي يجد الفنان حريته التامَّة والمطلقة في تنفيذ عمله، لكنَّ الراحل المهندس المعماري هشام المدفعي تجاوز هذه الإشكاليَّة، فكان مهندساً فناناً وفنانا
مهندساً".
ويوضح أنَّ "من يتأمل أعمال المدفعي مع لحاظ أنَّ غير المختص في الهندسة، أو العارف بخفاياها لا يحقّ له أنْ يقيمها، لكنَّنا هنا نصف انطباعاً جمالياً وقراءة يشوبها الانبهار من قبل متلقٍ عادي، لأنَّ تلك المنجزات التي حققها المدفعي تبهر فعلاً، ففي تخطيطه للكثير من المدن العراقيَّة، وكذلك تصميمه للمشاريع التجاريَّة والفنادق
وإشرافه المباشر على مشاريع فنيَّة مهمة، نلحظ أنَّ ثمّة مسحة من التراث العراقي تشتغل وتشغل فكره لحظة التصميم، فلا يشعر المتلقي هنا، وهو ينظر نحو هذه المشيدات بأنّها بعيدة عنه، بل العكس تماماً، فهناك ألفة ما تربطه معها، ووشيجة متينة تشده إليها، والحقيقة أنَّ هذا الشعور وأقصد به تناغم الرائي مع المرئي وشعوره بالصلة ضرورة اجتماعيَّة وإنسانيَّة، لأنك ستشعر بأنك في مكانك وبيتك وتاريخك، وأنَّ كلّ شيء يعرفك وتعرفه.. ولست غريباً مقموعاً تحت سلطة عمارة تغريبيَّة بعيدة عنك، وعن مخيالك
الجمعي". ويشير بقوله: "لقد حاول المدفعي طوال عمره أنْ يخلق مدرسة عراقيَّة في العمارة تستند إلى إرثٍ حضاري وتأريخي عميق، وقد نجح في ذلك، إذ ترك بصماته على العديد من الأعمال المهمَّة التي تجد فيها مسحة محليَّة تظهر برمزيَّة عالية".
وتوفي المعماري الشهير هشام المدفعي في لندن عن عمر يناهز الـ 97 عاماً، وتحديداً في 15/ كانون الثاني
2025.