ليس فينا، من يتذكر مرحلة السادس الإعدادي، بشيء من الارتياح، فذكرى تلك المرحلة غالباً ما تكون مقرونة بسيل من مشاعر الانزعاج في أعلى مناسيبه، لا سيما عند أولئك الذين أخفقوا في تحقيق المعدل الذي كانوا يحلمون به، وربما فشلوا في اجتياز تلك المرحلة، لتنمو في دواخلهم عقدة ستلازمهم مدى حياتهم، فقد حلموا ذات يوم أنهم سيصبحون مهندسين وأطباءً وطيارين ومحامين وصحفيين.. الخ.. ولكنَّ ثمة صخرة كأداء اسمها (البكالوريا) حطمت تلك الأحلام الورديَّة، لتحيل أصحابها الى هوامش مقصيَّة.
عقدة السادس الإعدادي بدأت قبل عقود طويلة لدينا في العراق، واستمرت تنمو وتنمو حتى استفحلت وغدت واحدة من أعقد وأكبر المشكلات التي تواجه التعليم في العراق. فالأسرة العراقية تكون سيئة الحظ إذا وصل أحد أبنائها الى مرحلة السادس الإعدادي، وتدخل الأسرة في أجواء التوتر بعد اجتياز الابن الصف الخامس الإعدادي مباشرة!، إذ تبدأ رحلة البحث عن المدرسين الخصوصيين لجميع المواد وسط مشاعر من القلق الذي يستمر على مدى سنة دراسية كاملة ويزداد هذا القلق كلما اقترب موعد الامتحانات النهائيَّة، فتجد الأب حزيناً والأمم مزاجها في غاية السوء، وقطعاً إنَّ مثل هذه الأجواء الملبدة بغيوم القلق، المحملة بأمطار الخشية من عدم تحقيق المعدل المطلوب من قبل ابنهم، ستنتقل الى الابن الذي يتأثر بقوة بما يحيط به من بيئة مكهربة قلقة، فيركبه هو الآخر رعب شديد، وينتابه شعور بأنه سيفشل في اجتياز الامتحان.!
وقد فعلت تلك الظروف والأجواء فعلها الكبير، فالذي يشاهد الأسرة في ليلة الامتحان، يتخيل أنَّ صباح غدٍ سيشهد حملة إعدامات واسعة، لطلبة السادس الإعدادي، فما الذي ننتظره من طالب يأتي محملاً بمثل هذه المشاعر السلبيَّة، يدخلُ الى قاعة الامتحان مشتتاً فاقداً التركيز، ليجد نفسه وقد نسي كل شيء، وهو غير قادر على الإجابة على الأسئلة برمتها، وهنا ينهارُ بعض الطلبة في قاعة الامتحان، فيما يلجأ آخرون الى تسليم الدفتر الامتحاني فارغاً، راكلاً بقدم الخوف كل تلك الخسائر والسهر والجهود التي بذلها هو وأسرته على مدى عام كامل، ليعود الى أهله مطأطئاً رأسه، لاعناً قدره الذي جعل منه طالباً مستقبله عبر بوابة السادس الإعدادي.
إنَّ قضية خطيرة مثل قضية السادس الإعدادي، وما تسببت به من ضرر جسيم لمسيرة التعليم في العراق تستدعي الوقوف بجدية والتفكير بإعادة النظر بالنظام التعليمي في العراق. فليس من المنطق أنْ نستمر بتطبيق مثل هذا النظام ونحن نرى ما يسببه من تخريب لمستقبل الكثير من الطلبة، لا سيما المتيزون منهم، ولكنهم، بسبب عامل الخوف والقلق يفشلون في الامتحان فيخسرون مستبقلهم. علينا أنْ نستفيد من تجارب الدول التي سبقتنا في هذا المضمار، إذ تركز الأنظمة التعليميَّة في تلك البلدان على اهتمامات وميول الطالب العلميَّة والعمل على تنميتها وفق طرق وأساليب تعزز الثقة لدى الطالب وتجعله مؤمناً بقدراته، وبالتالي ينجحون في رسم مسارات التنمية من خلال تحديد التخصصات العلمية والإنسانية التي تحتاجها سوق العمل وفق قدرات الطلبة. ونظامٌ مثل هذا هو الذي دفع بتلك الدول الى المزيد من التطور، لأنَّ الطالب الذي يكمل دراسته ويحصل على شهادته يدخل الى سوق العمل وهو مؤهل تماماً، فيكون قادراً على أنْ يبدع ويعطي المزيد، وهذا هو الاستثمار الأمثل الذي يحقق التنمية بجميع أبعادها.