ياسين طه حافظ
كلامي ليس في الأدب حصراً، ولكنه في الفكر السياسي أساساً ثمَّ في الأدب والفن وفي التربية عملا تأهيلياً. واقع القول وحاضر الكتابة هو أن النخب الثقافيَّة الأميركيَّة – مثلا بارزا ً- قياداتها كلها منظمات أفكار ومجتمعات أفكار وتجمعات سياسيين واقتصاديين. وهؤلاء جميعاً ما عادوا يفكرون بأميركا قائدة العالم. هذا تفكيرٌ صار قديماً تقريباً. ولا عادوا يفكرون بإيديولوجيا حضارة غربيَّة. ولكن صاروا يؤكدون، نظرياتٍ وتطبيقاتٍ، على التحول من هذه الإيديولوجيا، إيديولوجيا الحضارة الغربيَّة، الى إيديولوجيا "مجتمع التعدديَّة الثقافيَّة".
وهنا، ضمناً إشارة إلى العالم، وسنرى ما وراء ذلك.. وهو ما فرضه عليهم تنوعهم وتمددهم في العالم. هذا التحول في التفكير يتبناه اليوم القيادي والعضو في ما يسمى بـ "نادي الحضارة". وكما أسلفنا، كان وراءه احتياجٌ وضروراتٌ وحتمياتٌ هيّأ لها التقدم الاقتصادي والأنظمة المصرفيَّة وأنظمة ووسائل الاتصال.
إنَّ أميركا، بلادهم، مجتمعها متعدد الثقافات. و"متعدد الثقافات" صار شعاراً مألوفاً. هذا التفكير وهذا الرأي (المنقول أصلاً)، يوقفنا للتوسع في أبعاده وإشاراته لنقول:
انَّنا نعيش في بلدانٍ منفردة وضمن العالم. نعيشُ في حلقتين، واحدة ثنائيَّة الثقافة متعددة الخلفيات، غير مستقرة. وحلقة ثانية هي الحلقة العالميَّة، أو هي العالم المتقدم. فمن ناحية نحن منعزلون ومن ناحية، العالم عالمنا أيضاً وله تأثيراته.
وهذا الـ "عالمنا أيضاً" متعددُ الثقافات نتواصلُ معه بنسبة وعلى قدر تحضرنا. المجتمعات التي تشكل الحلقة الأولى، وهي حلقة مهتزة، تساير وتناقض وتحايد أحياناً المدى الثقافي في العالم. الحلقة المؤثرة هي الأولى والثانية منها قلقة غير مستقرة. وهذا القلق، عدم الاستقرار، يتخللُ عيشنا اليومي ومشاريعنا المستقبليَّة.
لنبسّط المسألة أكثر وبأمثلة من واقعنا اليومي، فنقول: إنَّ اختلاط الجنسيات مدنياً والأعراف وطنياً والعقائد دينياً، واللغات قومياً، ما عادت أصلاً تستطيع الانفصال التام عن تيار الثقافة العالمي وتوسعاته. ولا أنْ تبعدَ لغاتها وأعرافها وطقوسها كلَّ البعد عن اللغات والأعراف والطقوس الأخرى القريبة منها، وبدرجة أقل البعيدة عنها. المسلمون في العراق اليوم يحتفلون بعيد الميلاد المسيحي ويشاركون الصابئة في احتفالاتهم، وشعوبٌ عديدة تحتفلُ بعيد الحب وبيوم العمَّال العالمي. وألفاظٌ من هذه اللغة في تلك، وفي أحيانٍ كثيرة تتماثلُ أساليب الكتابة والخطاب. وصار صعباً فصل الأدب أو الفن، في أيٍ من مجتمعاتنا، عن الأدب والفنون في العالم. مثل هذا يقال عن اختلاط الأقوام، ولا أقول السلالات، فلا توجد أصلاً سلالة نقيَّة في العالم من القطب إلى القطب.
أما عن المختلفين، أصولاً وأعراقاً، فخذ مثلا التتار. هم في أوكرانيا وفي روسيا وفي تركيا وأواسط آسيا وفي أوروبا وأميركا منهم الكثير مثلهم، بنسبة ربَّما أقل، الهنود والعرب والكرد... الخ نحن نعيش في مجتمعاتٍ مختلطة الأعراق وهي، من ثم، مختلفة الثقافات الفرديَّة. لكنْ في البلد الجديد عناصر الاختلاف الأولى، أو الصفات، أقل.
هذا يحتمُّ التعلّم والتعوّد على العيش المشترك وضمن ومع آخرين وأنْ تكون ثقافة الفرد هي محصلة تلك الثقافات، قائمة على الأسس الثقافيَّة الجديدة أو مجاورة محايثة لها. وأنْ ينتمي فيها الفرد الى فضاءٍ كبير. ينتمي الى بوتقة كبيرة جامعة لمختلفين ضمن الثقافة العامَّة.
ففي نظر الأكاديميين والمثقفين والمهتمين في الفكر السياسي ورسم البرامج المستقبليَّة، صار النظر الى المجتمع كأفرادٍ مختلفين يحملون صفة وعقليَّة الانتماء الواحد. هم ينتمون الى الحاضنة الجامعة – أو الى الوطن وسيكون الى الوطن العالم.
أهميَّة هكذا تفكير أنَّه يطهر البلدان والمجتمعات، يطهر العالم، من العنصريَّة ويمسح النعرات القوميَّة والطائفيَّة، وسواهما ويعطل فعلها العدائي بين أفراد المجتمع وفي العالم. تصبح الرؤية بعقلٍ أخلاقيٍ مدنيٍ وإصلاحيٍ إنسانياً.
نحن إذن، باتجاه أكثر إنسانيَّة وأوسع فهماً للحياة على الأرض والعيش في مجتمع. نحن الآن أكثر احتراماً لوجود الآخر دونما اهتمامٍ بالاختلافات الأخرى الملغاة "عملياً" – وبنسبة قليلة "افتراضاً".
للعلم إنَّ هذا الاتجاه بدأ يؤسس لأوروبا موحدة وأميركا موحدة وصرنا نسمع التعابير تتكررُ في السنوات الأخيرة وصار ممكناً، عبر السياسة، إدخال مصطلح "الشرق الأوسط" ومصلح "أواسط آسيا" و" الاتحاد الأوروبي"- وصولاً طامحاً الى المجتمع العالمي الكبير. وهو حلمٌ سبق أنْ ظهر بصيغة "الأمميَّة". يعودُ الآن بواقعيَّة أكثر وبنظرٍ سياسي، أو قصديَّة سياسيَّة، أقل. لكنْ كمحصلة حضارة، الفكرة واحدة وهي نتاجٌ حتميٌّ للتطور الفكري والتوسع الثقافي العام في العالم والتواصل الواسع واليومي بين الأفراد والشعوب.
عموماً، نحن اليوم مجتمعاتٌ ثقافيَّة وإنسانيَّة بمستويات تحضّر متفاوتة، تجمعها حتى تتوافق مشتركات تتسعُ لفردياتها. ولا غفلة أبداً، بانتباه نقول، الثقافة والرأسمال، أو الرأسمال والثقافة يسيران معاً ويوسّعان أملاكهما في العالم، والعالم يتقدم، ونتائج هذا التقدم ليست دائماً ضدنا.