معركة الوهم

ثقافة 2025/01/28
...

 مهدي القريشي 

 تصوير: نهاد العزاوي 


"كيف تقنع إنسانًا ما واقع تحت سلطة وَهم من الأوهام أو سائر في الطريق الخطأ؟ يبدو لك الأمر لو إنك تقول للمجنون إنك مجنون!" بهذا الاستهلال يبدأ جمال جاسم أمين كتابه الموسوم "منابع سلطة الوهم" والصادر عن دار وتريات 

بابل. 

في هذا الكتاب المثير والصادم في محتوياته الفكرية يفكك مفاهيم سلطة الوهم، وكيف تحولت من سرديات شفاهيّة شعبويّة وتسلحت حتى صارت عقائديّة ومؤسسات ورموز لاهوتية واجتماعية تلعب دورا في اعاقة التقدم، هذه الأسئلة والمشبعة بالأفكار الصادمة أجاب عليها هذا الكتاب عبر صفحاته الـ92، وهو كما اعتقد سيكون البذرة التي ستنمو وتحرك الساكن بعد أن تنفض عن جسدها ثوب الخوف والخشية من الآخر المستفيد، ووضع الحدود على مغذيات الوهم وردم منابعه وهي كثيرة، لكن الذي أثارني في أحد مقومات ومغذيات الوهم "إن الأموات يحكمون  الأحياء" بمعنى أن اللحظة التي نعيشها هي اللحظة الميتة، أما الأسلاف فهم الأحياء ويمتلكون بوصلة مسيرتنا 

الحياتية.

أما أهم مغذيات الوهم كما يذكرها أمين فأنها اللغة التي نتحدث بها ويستشهد بما طرحه الكاتب جورج حنين في "مقدمة في الشعر العربي"، وخلاصة أفكاره هي أن العرب اهتموا بالمقولات البليغة وبهرجة  اللغة وتجاوزوا الواقع المعاشي، وأن الأمة العربية دخلت التاريخ عن طريق الكلام المقدس وانتهت إلى الشعارات فكانت اليوم كائنات خرافية، كلامية، وهذيانات لا واقعية. 

ويعقد  جمال جاسم أمين مقارنة بين اللغتين  العربية واليابانية، فالأولى تؤمن بالمعنى "الكلام الظاهر" ومعنى المعنى اللفظ الذي يفضي بك إلى معنى آخر عبر عملية التأويل أو فك شفرات النص، أما العقل الياباني فأنه عقل مادي ملموس لا يعرف التأويل، وهذا سر نهضة اليابان العجيبة. 

أما سلطة المجاز وهي كما يصفها حامد أبو زيد، "معركة الوجود الاجتماعية على أرض البلاغة" وكيف يتحكم المجاز بتوجيه دفة المعنى، أي  حرف اللفظ عن معناه الظاهر، حينها ينهض سؤال لماذا شغفت العرب في المجاز؟ يقول أمين سيأتيك الجواب سريعاً "لميلها  إلى الاتساع في الكلام" بمعنى أنها أمة خطابة والخطابة تتوخى  "الاعتداء" على قناعة الاخرين، وبالتالي فإن هذه الأمة تدمن اخفاء الحقيقة. 

ويقسم أمين العالم إلى طبيعي، وفرضيته الإنسان ذئب، الإنسان وعالم رباني، فرضيته الإنسان أخو الإنسان، أما الذئبية يتم اختزالها بفكرة الشيطان "وكيف تعاقبه على الأفعال التي يرتكبها الإنسان بتحريض منه سوى الرجم في موسم معروف؟". 

وفي فصل لا يتعدى صفحتين ألغى أمين تجربة فكرية رائدة ومازالت حاضرة لوقتنا وقد تبنتها أحزاب من كل بقاع الأرض، وكتجربة سياسية للفكر الماركسي، معظم هذه التجارب رشحتها شعوب بلدانها لتكون خارطة طريق لها نحو هدف اسمى فيختصرها أمين بوصفها شيئا يشبه الشعر أو  "نشيد من أناشيد الذات الحالمة".

أوما يعلم أمين أن كل الأفكار والنظريات الكبرى ابتدأت بحلم أما أن تسود أو تضمحل، والواقع يحدثنا عن سمو النظرية الماركسية، ومن ثم وضع المفكرون الماركسيون إضافات أدت إلى تطور النظرية وعدم وقوفها عند زمان أو مكان محددين.

وعن مشروع البديل الثقافي الذي تبناه امين وروج له في مجلة البديل الثقافي يثير أمين غبار الاسئلة في وجه المؤسسات الثقافية، منها الاسئلة  المرتبطة بحلم انتشار المشروع والذي يقف في وجهه التمويل وانسداد طرق تسويق المطبوع الثقافي ويتساءل الكاتب هل الثقافة ورق! أم أنها أثر على الأرض وخطى نخطوها بعد أن يحفزنا ما نقرؤه على الورق؟ ويقف كثيراً عند موظفي الثقافة كما يسميهم أمين وخياناتهم، حيث يتقولون بها وصولاً إلى ترتيب سلطات ثقافية ثم ينقلبون إلى حكماء ثبات وفقهاء مهرجانات مربحة مادياً ومضرة ثقافياً، وعن المال في العراق يؤكد الكاتب 

أن المال في العراق كله سياسي وما يعطى للثقافة هو في حقيقة الأمر يعطي للاحتفالات التي تخدم السياسة والحكومة تحديداً، أما عن طباعة الكتب فأنها من وجهة نظره ترضية لنرجسية الكاتب الذي تنازل عن اسئلته مقابل أغلفة "أوفسيت"  لا أثر 

يرتجى منها.