بغداد: الصباح
عن ديوان محافظة البصرة ونشر وتوزيع مكتبة بصرياثا صدر للناقد والأكاديمي العراقي ناصر الحجاج كتاب "المحليّة العربيّة: الثيمات المحلية في الشعر العربي الحديث".
يطرح الحجاج في الكتاب مفهوماً جديداً من مفاهيم النقد الثقافي، يدعى "المحليّة" وابتكر للاصطلاح مفردة إنكليزية هي Vernacularism والمشتقة من كلمة Vernacular وتعني في الأصل الشعبي، أو المحلي كصفة (نعت) للكلمة الموصوفة، فمثلا يقال اللغة المحلية vernacular language ويقال الفنون الموسيقية المحلية vernacular music ويقال طراز العمارة المحلية vernacular architecture.
وهكذا لكل الخصوصيات والتمايزات التي تختلف بها التجمعات البشرية عن غيرها ضمن الأمة الواحدة أو البلد الواحد، باعتبار أن اللسان العام يشكل هويَّة عامة تأخذ أجزاءها من اللغات المحلية المكونة لذلك اللسان، وأن الأمم والامبراطوريات، بل حتى البلدان إنما تتشكل هويتها من المكونات الصغيرة التي تشكل ذلك الكيان الكبير. ولهذا يطرح الكتاب "نظرية المحلية" على أنها الضد النوعي للهيمنة الثقافية التي تشكلها العولمة، بل هي التتويج الأكبر لنظرية المقاومة الثقافية التي طرحها
المفكر الإيطالي أنطونيو گرامشي. يجمع الكتاب بين مفهوم الهيمنة الثقافية ومفهوم العنف الرمزي الذي كتب عنه عالم الاجتماع الفرنسي بيير بوردو ليخرج بنتائج تطبيقية تفسر الانحياز في البحث العلمي أو في الدين أو الأدب، بل في مجال الدراسات اللسانية إلى الفئة الحاكمة باعتبارها قوة مهيمنة حيث تفرض النخب الحاكمة عبر تواطؤ النخب الثقافية لغة عامة تعدها أفصح أو أشرف من غيرها مع تغييب لغات محلية أخرى قد تكون أكثر أداء في الدلالة والتواصل
والتعبير.
وعبر هذه المفاهيم المؤسسة لنظرية المحلية يؤسس الكتاب لثلاثة مستويات من المحلية: المستوى الأول: هو مستوى التوظيف الإبداعي عبر تبني المبدع شاعرا، روائيا أو فنانا للعناصر والثيمات المحلية في العمل الإبداعي، وبخاصة ما تنجته السلطة ونخبها التعليمية والثقافية من تلك العناصر التي تشكل الهوية الوطنية في بعدها العفوي الفطري لدى المواطنين.
المستوى الثاني: هو المستوى النقدي (الدراسي البحثي) للمحلية، وهو الأسلوب الذي يعتمد التحليل الثيمي والبحث الاستردادي لمعرفة البنية المحلية الحية المعاصرة التي تشكلت عبر التاريخ لهذه المجموعة البشرية المحلية، إذ يستلزم المنهج المحلي في النقد إحاطة الناقد بكل تلك التفاصيل التي تشكل الهوية المحلية على المقولة التي يؤسس لها الكتاب "الحقيقة تكمن في التفاصيل"، بما يسمح للناقد تناول العناصر المهملة والمهمشة أو التي تعرضت للظلم والاضطهاد والاقصاء عبر تلك الأزمنة التي يدرسها هذا المنهج عبر البحث الاستردادي أو
الاستعادي.
المستوى الثالث: هو المستوى الأيديولوجي ومستوى الهوية حيث تشكل "المحليّة" حركة فكرية تدعو إلى مواجهة العولمة في فرضها نموذجا واحدا على كل النماذج سواء في وضع معايير الجمال، أو الحق، أو الحريات، وما إلى ذلك من المسارات التي ترى العولمة أنها أحق بالهيمنة والسيطرة والترويج على أنها أفضل من سائر الثقافات، وهو ما يقف بالضد من التنوع الثقافي، والتمثيل العادل للعناصر أو الشعوب والكيانات الاجتماعية أو البشرية الصغيرة، لا على الصعيد السياسي، بل على الصعيد الثقافي وصعيد الهوية
المحلية.
مع تأصيله لمصطلح "المحليّة" فإن كتاب "المحلية العربية" على أمثلة كثيرة من محليات الشعوب العربية وبخاصة توظيف الشعراء العرب المحدثون للثيمات المحلية لبلدانهم وشعوبهم، ومنها على سبيل المثال ثيمة "عاشورا" التي تشكل في الشرق العربي رمزا للحزن والعطاء الإنساني من أجل الإصلاح، بينما تعبر "عاشورا" في السودان ومصر عن التواصل الاجتماعي من خلال بذل الطعام "حلوى عاشورا"، بينما تشكل "عاشورا" في المغرب ثيمة للفرح ورمزا للتحرر والاحتفال بالحياة. يقع الكتاب الذي صمم غلافه الفنان تضامن العضب، حاملا لوحة "بائعة السمك" لنادية أوسي في 448 صفحة من القطع
المتوسط.