رامية منصور
حين البحث في الكينونة نجد أنها ليست صفة للموضوع، صفة يمكن إدراكها من بين غيرها من الصفات، ولا هي معنى من معاني الموضوع، ذلك أن الموضوع يحيل إلى الكينونة التي تبتعد عن الدلالة.. كما أن من غير المنطقي اختزال تعريفها بمصطلح الحضور، فالغياب يكشف الكينونة، بالتالي فإن غياب الكينونة هو أيضا نوع من الكينونة. بناء على ذلك لا يمتلك الموضوع الكينونة، ووجوده ليس مشاركة في الكينونة، فليس من علاقة بأي شكل بينهما.. إن الموضوع هو كائن وهذه هي الطريقة الوحيدة لتحديد شكل وجوده، لأن الموضوع لا يحجب الكينونة، لكنه لا يدعي اكتشافها في ذات الوقت.. إن رسم إستفان لأشياء وأشخاص بطريقة غريبة، جعلت التعرف على أسلوبه غير المعتاد أمرا يسيرا لاسيما مع استخدامه الألوان الرئيسية التي يعتمدها في لوحاته وهي الأزرق والبنفسجي والرمادي، تلك الطريقة في الرسم لم يكن إيجاد الأسلوب عبرها أو جعلها صفة أسلوبية هو الهدف الأساس إنما سعى ساندورفي إلى تقديم بحث بصري في الكينونة لا يتحدد في الرؤية السطحية كاسرا قناعات كثير من الناس الذين يعتقدون أن الرؤية هي الهدف من وراء المنتج البصري، ليقول بأن الهدف هو التعمق فيما وراء سطح الرؤية متغلغلا عبر جزئيات
الرؤية.
لقد أتقن إستفان ساندورفي ما يسميه نقاد الفن بالواقعية المفرطة. لكنه فعل ذلك بمزاوجته الخاصة بين عناصر الواقعية المفرطة والسريالية.. فبرغم كونه قد كرس الكثير من سني حياته لإتقان حرفيات الرسم الخاصة به من أجل تحقيق الصورة الواقعية بيد أنه في نفس الوقت ذهب إلى سحب البساط من تحت الرؤية المستقرة للمشاهد وجذبه بعيدا عن طريق ترك جزء من الشخص يتلاشى في الهواء.
ساندورفي، الذي هو دون أدنى شك، أحد أكثر الفنانين الأوروبيين تمثيلا للانتقال من منتصف القرن العشرين إلى القرن الحادي والعشرين. ذلك المجري الذي هاجر من بودابست هربا من الدبابات السوفييتية ولجأ إلى ألمانيا ما بعد الحرب ليستقر أخيرا في باريس حتى وفاته، تطبع بعناد هو ردة فعل على خزين من القلق الوجودي الذي تشحنه بلدان تشبعت بدخان الحروب ومارس أسلوبا ذاتيا للغاية في الرسم، في كثير من الحالات كانت صور شخوصه شبه المصابين بجنون العظمة ترينا قوة تعبيرية لا جدال فيها.
لطالما كان إستفان خجولا جدا يفضل العمل ليلا واستخدم نفسه في الغالب كنموذج، لأنه لم يعجبه أن يشاهده الآخرون وهو يعمل. فابتكر سلسلة من الصور الذاتية ذات المسحة العدوانية الصادمة، وأحيانا المخيفة ثم ما لبث أن توقف عن انشاء لوحات قاتمة وراح يصور النساء عبر إعادة انشاء أجسادهن في الاستوديو الخاص به، حيث قام بلفهن بملاءات وبطانيات، وقدم لوحات بألوان أكثر ثراء لكن لوحاته لا تكاد تخلو من عناصر مرسمه كباليت الألوان أو الحامل الخشبي للوحة
وفرشه.
كان إستفان ساندورفي يقول دائما إن الرسم بالنسبة له ليس وظيفة، بل ضرورة حقيقية معتبرا أن الفن هو فلسفة الحياة. تلك الفلسفة التي سعت لاستكشاف كينونة الإنسانية الرازحة تحت أثقال فوضى هذا العالم المكتظ بشراسة البشر وتصويرها من خلال منظوره الذاتي المشبع بالقلق والوحدة كونه انسلخ من كل كينونة صنعتها الاضطرابات المختلفة لكنه لم يبتعد عنها، بل بقي على مقربة من أوارها يدفئ ما تبقى لديه من روح تعبر عن نفسها بتلك اللوحات ذات الأجواء الثقيلة القاتمة والغامضة بشكل خاص التي حاول فيها التعبير عن رغبة قوية حائرة بين انقاذ الانسان أو نفيه إلى عالم آخر يعثر فيه عن خلاصه. قال إستفان ساندورفي: "لا يوجد شيء مثير للاهتمام في مجرد إعادة انشاء ما نراه على القماش فغاية العمل الفني هو استدعاء كينونات هذا العالم لتنطق بشهاداتها... ".
غادر إستفان هذا العالم تاركا عملا غير مكتمل يقبع أمام مقعده وفرشه ينظر في أركان المكان متسائلا عن
مصيره.