د. نادية هناوي
يعدُّ الروائي الأميركي جاك لندن(1876 - 1916) رائداً من رواد كتابة السرد البيئي برواياته( نداء البرية، القط الأسود، ابن الذئب، وذئب البحر، والناب الأبيض) وأبطال هذه الأعمال بشر وحيوانات يتعايشون ضمن بيئة طبيعية يُسهم الجميع في إدامتها.
ومن أهم ابتداعات لندن أنه يتعامل مع الحيوان مثلما يتعامل مع أية شخصية بشرية لها مشاعر نفسية ومشكلات ذاتية.
ففي رواية( الناب الأبيض) نلمس اهتماماً مكثَّفاً بتصوير الحالة الشعورية لكلٍّ من الإنسان والحيوان، مؤكداً بذلك حالة التوازي ما بين كينونتهما الحية. وتدور أحداث هذه الرواية في البرية وتحديداً الإقليم الشمالي للولايات المتحدة الأميركية. والسارد عليم يصور رجلين وسط الغابة وقد انتابهما الخوف من حيوان يهمُّ بمهاجمة مخيمهما. وينقل تفاصيل حركات هذا الحيوان وسكناته. وكلما تقدمت الأحداث، ازدادت مركزية الشخصية الحيوانية وغدت لها الأولوية داخل البناء السردي.
وتدفع قسوة البيئة المتجمدة الذئبة إلى أن تنافس حيواناً من صنفها على صيد الطرائد ثم تجد الحاجة ملحَّة للانضمام إلى قطيع الذئاب. وما يميز الذئبة هو حذرها واستقلاليتها فكانت تتخذ قرارات خاصة بها سواء في مسألة اقتناص فرائسها أو في محاولتها ردع الذئب ذي العين الواحدة من الاقتراب منها. ويتغير مجرى الأحداث حين تضع الذئبة جروها الأول، وسرعان ما يقع في يد الهنود الحمر ويسمونه “الناب الأبيض” ويتحول مركز الأحداث نحوه. وينقل السارد العليم تفاصيل مغامرات الجرو حين وقع أسيراً بيد البشر( لم يحب أيدي الحيوانات الإنسانية إذ كان يشكُّ فيها وصحيح أنها أحياناً تقدم اللحم لكنها في أغلب الأوقات توقع الأذى).
وتنتاب الجرو في علاقته بالحيوانات الأخرى مشاعر( الخجل، الغيرة، الانزعاج ..الخ ) وأحياناً يقتحم السارد العليم الأحداث كي يدلي برأي فمثلاً يقول في أثناء استبطان مشاعر الناب الأبيض وهو يسمع ضحك الآخرين( وعندئذ شعر بالخزي بعد أن عرف الضحك وما يعنيه ولم يصل إلينا ما يدلنا على كيفية إدراك بعض الحيوانات الضحك أو إدراك هذه الحيوانات أنها موضع الضحك الساخر ولكن الناب الأبيض أدرك ذلك وشعر بالخزي لسخرية الحيوانات الإنسانية منه واستدار وهرب لا من ألم النار بل من السخرية التي هي أشدُّ إيلاماً له وأكثر عمقاً في نفسه وهرب إلى كيش المخلوقة الوحيدة في العالم التي لا تسخر منه). ويقع الجرو في قبضة الصيادين لكنه ينجو من الأسر ويدخل في صراع قوي مع مجموعة كلاب وينجو أيضاً. وما يساعده في ذلك قدرته على الإفادة من ظروف البيئة التي كانت توجه غرائزه وجهة صحيحة، وكان يعلم( أن عليه أن يلائم بين نفسه وبين ظروفه على نحو أكثر اتساعاً من الملاءمة التي حققها عندما جاء من البرية.. أجاد إبهام الظروف عمله جيداً إذ شكله وجعل مادته صلبة وجعل منه الذئب المقاتل المتوحش الذي لا يرحم ولا يحب ولا يحبه أحد). وما إن أدار الناب الأبيض ظهره للبرية، حتى صار أليفاً وقد اطمأن إلى السيد المحبوب ووثق به وصار خادماً له، وعرف كيف يبتكر الطرق التي بها يتوافق مع هذا الأسلوب الجديد في الحياة. وكان من تبعات ذلك أنه احترف جرَّ الزحافات مع الكلاب.
وقبول الناب الأبيض بترك البرية، جعل وجوده مقترناً بوجود سيده المحبوب الذي اختفى أواخر فصل الربيع فعانى الناب الأبيض من مشكلة العودة إلى البرية لأنه أضاع كل غرائزه في التكيُّف معها، وفقد فاعلية أعضائه باستثناء عضو واحد هو رأسه( أهم ما يحرص عليه دائماً وكان يكره أن يلمسها أحد وكانت هذه هي الناحية الباقية فيه من حياة البرية ناحية الخوف من الأذى والحرص من الفخاخ تلك الناحية التي تثير فيه الذعر وتدفعه إلى تحاشي الاتصال وكان حكم غريزته أن يبقى رأسه حراً).
ومرة أخرى يقتحم السارد العليم الأحداث، متسائلاً هل يمكن للناب الأبيض المتوحش أن يجد لدى الإنسان ذلك الدفء الذي اعتاد أن يجده فوق الجليد ؟ والجواب وضعه في خاتمة الرواية حين ظهر السيد المحبوب من جديد. وعندها وجد الناب الأبيض السعادة وقد دسَّ رأسه بين ذراعي السيد واختفت رأسه عن الأنظار وكفَّ عن الزمجرة ولسان حاله يقول: ( إني أضع نفسي بين يديك فافعل بي ما تشاء). وفي ذلك إشارة اليغورية إلى أن الإنسان نجح في أن يدجِّن الذئب ويحوله من حيوان وحشي إلى كلب أليف. وانتهى من ثم ذلك الزمان الذي فيه كانت البرية توجه غرائز الذئب، بل صار التعلم والتدريب يوجهانه. وهذا ما جعل غرائزه الحيوانية تستكين فتتأكد بالمقابل قدرة الإنسان على التلاعب بالنظام البيئي وما فيه من عناصر طبيعية.
إن هذا الذي ابتدعه جاك لندن في توظيف الحيوان داخل سرديَّاته البيئية لم يظهر تأثيره واضحاً في الروائيين الذين أتوا من بعده إلا حين برز النزوع الأخلاقي وانتشر السرد البيئي على يد كتّاب غربيين وظَّفوا الشخصية الحيوانية وركزوا على البيئة ومستقبل النظام البيئي ودينامية العلاقة العضوية بين الحيوان والإنسان في بناء مجتمع متوازن، يتحمل مسؤولياته الأخلاقية والقانونية تجاه الطبيعة ومكوناتها الحية وغير الحية.