ما مدى تعافي الاقتصاد الأميركي؟

اقتصادية 2019/07/07
...

 
 
ترجمة/ انيس الصفار   
هيذر لونغ                               
 
يقف الاقتصاد الاميركي في موقع محير حقاً، فالوظائف كثيرة وسوق الاسهم يسجل مستويات قياسية، رغم هذا يشعر قياديو عالم الاعمال بالقلق من المستقبل الى حد يجعلهم يقلصون الانفاق. يصف الرئيس ترامب وضع الاقتصاد الحالي هذا بأنه “الأعظم على الاطلاق”، ولكنه رغم ذلك يعود ليطلب من البنك المركزي الاميركي ضخ المزيد من المحفزات في مجرى الاقتصاد بأسرع وقت ممكن، وهو شيء لا يحدث عادة إلا إذا لاحت اعلام صفر وحمر كثيرة.
ثمة اجماع طاغ بين الخبراء على أن الاقتصاد الأميركي آخذ بالتباطؤ بعد السخونة الشديدة التي شهدها في العام 2018، ولكن الجدال محتدم بينهم حول السرعة التي ستنخفض بها تلك الحرارة. يسوق البعض حججاً ترجح بأن اقتصاد الولايات المتحدة سوف يبدو في نهاية هذه السنة كثير الشبه والملمس بسنة 2016، أي أنه سيكون “مرضياً” ولكن ليس بالرائع. ثمة آخرون يعتقدون أن الامة قد تنزلق متقهقرة الى تراجع هادئ شبيه بما حدث في 1990 أو 2001. (البيت الابيض يؤكد بعناد أن ليس هنالك أي تباطؤ).
سألت صحيفة واشنطن بوست أبرز المتنبئين الاقتصاديين عن المعايير التي يرصدونها عن كثب حالياً فأشار العديد منهم الى سبعة مؤشرات كانت كفوءة في الماضي في التقاط دلالات الكساد، تلك المؤشرات هي: مشتريات التصنيع، حجم نشاط النقل بالشاحنات، مبيعات الشاحنات الثقيلة، انفاق رأس المال التجاري، التعيينات المؤقتة، شروط الاقراض المصرفي (مثلاً مدى سهولة الحصول على قرض) والطلبات الجديدة المقدمة على إعانات البطالة.
تتكشف البيانات عن مشهد غائم، ولكن الدلائل قليلة عن قرب هبوب عاصفة سيئة. أكبر الاعلام الحمر يلوح فوق قطاع التصنيع، الذي يشكل نسبة 12 بالمئة من الاقتصاد. أما النقل بالشاحنات والانفاق التجاري فتومض فوقهما اضواء صفر، وهذا انعكاس يدل على ان المدراء التنفيذيين يتولاهم شعور شديد بالتوتر. بيد أن التعيينات والقروض المصرفية لا تزال تبدو متماسكة، أو حتى قوية.
يقول “بيتر أتواتر” رئيس مؤسسة “فايننشيال انسايتس”: “الرسالة التي نتلقاها من رئيس بنك الاحتياطي الفيدرالي جيروم باول، هي أن علينا الانتظار حتى يستقر هذا التوجه وتتضح معالمه، لأن الخطر الفعلي يتمثل في اندفاع الجميع معاً بمجرد ظهور أول بوادر الانحدار نزولاً في محاولة لتدارك مواقفهم دفعة واحدة.”
تتجسد المجازفة الاكبر اذا ما دفع القلق الناشئ عن الحرب التجارية وضعف النمو في الخارج وتباطؤ قطاع التصنيع، الشركات الى إيقاف التعيينات في الولايات المتحدة خلال الاشهر المقبلة، وهو تغير قد يثير هواجس سوق التجزئة ويسبب لدى المستهلك الاميركي عزوفاً عن الانفاق. ولكن ثمة امور كثيرة لا تزال مفتقرة الى الوضوح الكافي، واليك فيما يلي عرضاً موجزاً لأهم المعايير:
1. التصنيع (علم أحمر) – كان التباطؤ هنا صارخاً خلال العام 2019. فالتعيينات لم تسجل اي ارتفاع بعد أن كان العام الماضي أحد افضل الاعوام منذ اواخر التسعينيات. الانتاج آخذ بالتباطؤ، وهو مثير للقلق بشكل خاص، والتوجه الصناعي ارتد الى مستويات تكاد تنذر بالركود.
يراقب كثير من الاقتصاديين بدقة ما يسمى “مؤشر مدراء المشتريات”، وهو مسح لأهم الجهات الصناعية المتصدرة تجريه “آي أتش أس ماركت” (وهي مؤسسة يتركز نشاطها في توفير المعلومات على نطاق العالم مقرها لندن – المترجم). فحين يكون “مؤشر مدراء المشتريات” أعلى من 50 كان معنى ذلك أن الاقتصاد في حالة تمدد، وحين يهبط الى ما دون 50 فإنه عادة ما يكون في حالة انكماش. في شهر حزيران الماضي هبط المؤشر المذكور الى 50,1 وهذه اسوأ قراءة له منذ العام 2009. السؤال المهم هنا هو إن كان هذا الضعف سيمتد الى قطاعات اخرى او يتسبب باطلاق وضع مماثل لما حدث في العام 2015 عندما انكمش التصنيع ولكن قطاع الخدمات (التكنولوجية والمالية والخدمية والصحية .. الخ) بقي متماسكاً.
2. النقل بالشاحنات (علم يتذبذب بين الأصفر والأحمر) - أي سلعة تباع في الولايات المتحدة لابد لها من أن تنقل بالشاحنة في مرحلة ما من مسارها، لهذا السبب يمكن أخذ بيانات النقل بالشاحنات كأدلة كاشفة. بعد عام 2018، الذي كان عاماً رائعاً، انتكس نشاط النقل بالشاحنات انتكاساً حاداً خلال الاشهر الستة الماضية، وفقاً لـ “مؤشر كاس للشحن”.
يقول “دونالد براوتون”، مؤسس “براوتون كابيتال” وكبير المحللين في مؤسسة “مؤشر كاس للشحن”: “مختصر القول إن هناك مزيدا من البيانات التي تشير الى أن هذه هي البداية لمرحلة انكماش اقتصادي. فحين يحصل انكماش يكون مؤشر كاس من أول المؤشرات المبكرة الدالة عليه.”
بيد أن العديد من الجهات الناقلة بالشاحنات تنبه على أن من الصعب المحافظة على مستويات نشاط السنة الماضية، وبالتالي فإن من العسير معرفة مدى ما يمكن استقراؤه من الانحدار السنوي. ففي العام 2018 كانت الشركات تتمتع بتخفيضات ضريبية كبيرة حفزتها على التوسع في مشترياتها ومحاولة شحن اكبر كميات من البضائع قبل ان توضع تعريفات ترامب موضع التنفيذ.
3. مبيعات الشاحنات الثقيلة (ضوء أخضر) – إن كان النقل بالشاحنات يبدو كالحاً فثمة طريقة ثانية لقياس مدى عافية النشاط التجاري المتعلق بالشاحنات والنقل (ومن خلالها تحسس الوضع العام لصحة الاقتصاد)، تلك الطريقة هي رصد حجم مبيعات الشاحنات ذات 18 عجلة. تبدو البيانات هنا افضل من سابقتها، وهي كما يبدو مؤشر ينم على أن هذا النشاط لا يزال في وضع حسن بدرجة تكفي لجعل الشركات راغبة في الاستثمار للمستقبل. 
يقول “برايان ويزبري” كبير الاقتصاديين في مؤسسة “فرست تراست بورتفوليو” التي تراقب مبيعات الشاحنات الكبيرة والطلبات المقدمة للحصول على إعانات البطالة الاولية: “البيانات التي رصدتها حتى الان لا توحي بأن الاقتصاد يتباطأ.” 
ولكن “بوريس سترباك”، صاحب شركة “النجم للنقل بالشاحنات” في ملووكي، يقول إن اصحاب شركات النقل بالشاحنات كانوا شديدي الاقبال على شراء الشاحنات في نهاية السنة الماضية، ولكنهم لم يتمكنوا من الحصول عليها إلا في هذه السنة نظراً لشدة الطلب عليها آنذاك. يتوقع سترباك أن المبيعات لن تلبث أن تنخفض هي الاخرى ويضيف: “لقد ارتكبت غلطة حين اشتريت اربع شاحنات مؤخراً، وانا الان نادم على ذلك.”
4. الطلبات المقدمة للحصول على إعانات البطالة (ضوء أخضر) – كان مستوى التعيين في الوظائف دائماً أحد اقوى مفاصل الاقتصاد منذ العام 2014، لذا يعكف خبراء الاقتصاد بدقة على مراقبة اعداد الاميركيين الذين يقدمون طلبات للحصول على تأمين ضد البطالة، لأن هذه البيانات تصدر في نشرة اسبوعية وهي غالباً ما تكون اول مؤشر على ظهور مشكلة ما.
الطلبات الجديدة المقدمة على إعانات البطالة لا تزال واطئة حالياً، ولكن كان هنالك ارتفاع بسيط مؤخراً سجل اعلى رقم على مدى سبعة اسابيع. رغم هذا يقول الاقتصاديون إن الطلبات على إعانات البطالة لن تصبح مدعاة للقلق قبل بلوغها 250 ألف طلب اسبوعياً على الاقل. (احدث البيانات التي اعلنت يوم الخميس الماضي تظهر تسجيل 227 ألف طلب جديد في الاسبوع الاخير).
5. التعيينات المؤقتة (ضوء أخضر) – من الطرق الاخرى لقياس مدى رغبة الشركات في تعيين الاشخاص هي دراسة اعداد الموظفين المؤقتين الذين تعينهم تلك الشركات. هؤلاء العاملون يكونون عادة أول من يسرحون مع أول بادرة على حدوث التباطؤ، لأنهم الاسهل وارتباطاتهم لا تزال ضعيفة بالشركة أو الادارة.
تقيس وزارة العمل حجم التعيينات المؤقتة على نسق شهري، وقد ابدى العام 2019 وجود تباطؤ لحد الان في التعيينات المؤقتة مقارنة بالسنة الماضية، إلا ان الوضع لا يزال دون الانقلاب الى قيمة سلبية. يبدو أن التعيينات المؤقتة لها ارتباط ثابت بفكرة ان الاقتصاد آخذ بالتباطؤ تدريجياً هذه السنة، ولكنه لا يزال تباطؤاً وليس انتكاساً بعد.
6. الانفاق التجاري (علم أصفر) – تشير اغلب معايير تحسس المزاج في القطاع المشترك الى أن الاعمال التجارية الكبرى يخيم عليها التوتر والعصبية، لكن السؤال هو كيف يترجم ذلك في ميدان صناعة القرار؟ تشير ادلة متنامية في هذه السنة الى ان الشركات قد اخذت بالانسحاب والتراجع عن الانفاق الاستثماري. السبب في ذلك هو أن الاعمال التجارية تأخذ بتضييق انفاق رؤوس اموالها بشكل تدريجي كلما ضعف يقينها وثقتها بالمستقبل، الأمر الذي يجعل منها معياراً يرصد عن كثب وبدقة. الانفاق التجاري، مثله مثل التعيينات المؤقتة، لم ينقلب بعد الى الجانب السالب، بيد انه ينم عن مسار متجه بوضوح نحو التباطؤ.
7. الاقراض المصرفي (ضوء أخضر) – يتابع كثيرون التقلبات اليومية في أسواق الاوراق المالية، في حين أن المعيار الافضل للتعرف على كيفية تفاعل شارع الأعمال “وول ستريت” والمؤسسات الاقتصادية الاوسع مع بعضهما البعض هي القروض المصرفية. يركز الاقتصاديون انتباههم بقوة لمعرفة ما اذا كانت المصارف قد بدأت تضيق معايير الاقراض لديها (لأن التضييق من دلالات تزايد القلق)، أم ترخيها، ويتبين أن المصارف كانت ترخي معايير الاقراض وهي دلالة على ان معظم المصارف لم تستقرئ بعد قرب انتكاسة كبرى وشيكاً.
يقول “ماثيو لوزيتي” كبير الاقتصاديين الاميركيين في “دويتشة بانك” إن مؤشرات الاقتصاد هذه مجتمعة مع بعضها تجعله قادراً على التنبؤ بأن “النصف الثاني من العام سوف يشهد انحداراً في زخم النمو المحلي”، ولكنه حريص على عدم تسمية هذا الانحدار “ركوداً”.   
عن صحيفة واشنطن بوست