المعادن الأوكرانيَّة تشعل فتيل الصراع الجيوسياسي

بانوراما 2025/02/27
...

 نيك تريكت

 ترجمة: شيماء ميران


أحيا الصعود الجديد والسريع لإدارة الرئيس الأميركي "دونالد ترامب" منظور (حرب الموارد) بين اتجاه اليساريين المنتقدين للسياسة الاميركية والمدافعين عن روسيا، مقابل الجمهوريين المؤثرين على "ترامب". ووفق تقديرات الجمعية الاوكرانية للجيولوجيين فان اوكرانيا تملك خمسة بالمئة من الموارد المعدنية الحيوية على مستوى العالم، وتشمل التيتانيوم واليورانيوم والليثيوم والغاليوم والمنغنيز والبريليوم والعناصر النادرة الاخرى، فضلا عن خامات سائبة اخرى مثل الحديد وغيره. ومن الصعب تصور أن كييف وموسكو لا يدركان القيمة الستراتيجية لهذه الموارد.


عادة ما تجلب حروب الموارد النفط إلى الأذهان. لكن التكنولوجيا النظيفة تُغيّر كيفية تفكير الدول بأمن الطاقة. وبينما تكون ازمات الوقود الاحفوري آنية فهذا الوقود اما منتج او مستورد ويُستخدم مرة واحدة وأحيانا تفرض قيود على تخزينه، فإن أزمات الطاقة النظيفة مستقبلا تنجم عن الاضطرابات التي تصيب امدادات المعادن اللازمة لصناعة التكنولوجيا الاساسية. بالمقابل، تُستخلص هذه المعادن من الخامات ويمكن تكديسها بهذا الشكل داخل مستودعات الى اجل غير مسمى.

ربما يُعيد المؤيدون للمكاسب المالية المفاجئة لهذه المعادن النظر بحجم الاسواق المعنية. وبحسب الكميات المعادلة من النفط الخام، فإن العالم يستهلك سنوياً أكثر من خمسة مليارات طن من النفط الخام ومشتقاته. وتتداول الاسواق المالية عقودا آجلة للمنتجات النفطية ما يعادل ثلاثة تريليونات طن تقريبا، وتولد أسواقها مجتمعة تريليونات الدولارات من نشاط التداول التجاري.

من الناحية التسويقية، يحتل النحاس المركز الاول بين المعادن الحيوية، إذ تبلغ حجم التجارة الفعلية به نحو 30 مليون طن سنويا، وبقيمة تصل الى 270 مليار دولار، ويترك بصمة صغيرة نسبيا على سوق العقود الاجلة. أما الليثيوم، الذي يحظى باهتمام شديد بالنسبة لثروات اوكرانيا المعدنية، فيقترب من مليون ونصف مليون طن، ويفتقر اليوم إلى سوق العقود السائلة الآجلة، إذ يوّلد نحو 30 مليار دولار سنويا. ومع أن المعادن الحيوية لها أهمية كبيرة فعلا، لكنها لا توّلد ذات القوة المالية للنفط لتمويل الانعاش او توفير الايرادات الضريبية.

العامل الصيني ان كانت الحرب الروسية تستهدف الثروة المعدنية في اوكرانيا، فالسؤال الواضح ما هي الخطوة القادمة بعد ذلك؟، فمن غير المرجح رفع العقوبات ولن تلجأ اوروبا إلى شراء الموارد من روسيا. تسيطر الصين على نصف انتاج وتكرير كل معدن حيوي تقريبا، وربما أكثر، من خلال شركات متكاملة عموديا تحقق ارباحا بأسعار اقل من نظيراتها الغربية. فإما أن تنوي روسيا بناء اقتصاد اخضر، وهو أمر شاق بالنسبة لنمو اقتصادها القائم ونموذجها المالي، أو إنها ستبيع للمشترين الصينيين الذين يمكنهم فرض إتفاق صعب على السعر.

حتى وان نجحت روسيا في استثمار هذه المعادن، فلن تقدم المنفعة الكبيرة لاقتصاد بحجم روسيا، او احتياجات التنمية ونقص اليد العاملة؛ إلا بوجود سياسة صناعية جديدة والوصول الى الفكر الصيني والغربي في مجال التكنولوجيا النظيفة. لقد كلّف التشكيك النخبوي طوال خمسة عشر عاما روسيا فرصة التحول الى دولة مصدرة لهذه التكنولوجيا الناشئة. ورغم زيادة انتاج روسيا للنحاس، فإن قيمة النيكل من الفئة الاولى انخفضت اليوم بسبب فائض العرض الصيني من المناجم الاندونيسية. اضافة الى التراجع السنوي لاهمية احتياطي البلاتين والبلاديوم كونهما يُستخدمان أساساً لمحركات الاحتراق الداخلي وأنابيب العوادم الخلفية للسيارات (الصالنصات).

من الجانب الآخر، بالنسبة لأوكرانيا فان هذه الموارد لها قيمة ستراتيجية قد تمنح كييف القدرة التنافسية ضمن مجال صناعة التكنولوجيا النظيفة والنووية. وقد تستفيد اوكرانيا بعد الحرب من إعادة سلاسل التوريد خارج المانيا، مثلما فعلت بولندا واعضاء الاتحاد الاوروبي الاخرون شرق اوروبا. وإذا عزمت كييف على ضمان الاستثمار والتنمية السريعة، فمن المرجح اولا فرض الضرائب على عمال المناجم بدلا من الاستخراج، ما يقلل القاعدة الضريبية عن القطاع على نحو كبير مقابل ايرادات التصدير لتقوية العملة الاوكرانية (الهريفنيا).

ليس من الهين تقدير قيمة الثروة المعدنية للبلاد. ولكون اسواق السلع الاساسية متقلبة، فمن الممكن استبدال المعادن ببعضها البعض أكثر من الوقود الاحفوري لتطويرعلم المواد. ومن السهل أن ننسى ان انظمة الطاقة التي تعتمد على المعادن لا تزال حديثة. وأحد الاسباب التي افقدت المركبات الكهربائية قيمتها بهذه السرعة هو وتيرة الابتكارات والتحسينات السريعة سنويا ضمن النطاق ذاته.

تمثل بعض مستلزمات الانتاج رهانات آمنة. فاليوم، نحن نعيش مرحلة تزايد الإنفاق العسكري، وايجاد الطلب على التيتانيوم. وعلى نحو مماثل، تتطلب ثورة الذكاء الاصطناعي والثورة المعلوماتية الكبيرة أشباه الموصلات التي تستخدم غاز النيون، والذي ما قد تملكه أوكرانيا.


ثروة متنازع عليها

كما تمتلك اوكرانيا معدنا نادرا هو "الغاليوم" الذي يدخل ضمن استخدامات أشباه الموصلات والالواح الشمسية الكهروضوئية ومصابيح (ليد) LED والدوائر الالكترونية ومحولات الطاقة. وقد فرضت الصين مؤخرا قيودا على تصدير الغاليوم ردا على السياسة الاميركية، مستغلة سيطرتها شبه الكاملة على إنتاجه المكرر، ما يوفر فرصة لاوكرانيا لتصبح عضوا اساسيا معتمدا لسلاسل التوريد العالمية، ولكن من الناحية المالية فإن هذه السوق صغيرة جدا.

من المعقول استخدام الموارد المعدنية وسيلة لاقناع اميركا بالتزامات طويلة الأجل، ولكنها اقل أهمية مما تبدو عليه ظاهرا. وعلى الرغم من ان اميركا غنية جدا بالمعادن لكن بناء المناجم الجديدة قد يستغرق عقودا من الزمن. ومن المرجح ان يضع الكونغرس الجديد الاصلاحات اللازمة لتسهيل ذلك.

حتى وان افترضنا انه تم التوصل الى اتفاق سلام، ستبقى اوكرانيا مجبرة على التنافس مع الدول الغنية بالمعادن مثل اميركا اللاتينية وجنوب الصحراء الكبرى ومنطقة اسيا والمحيط الهادئ وكندا واستراليا لكسب ود واشنطن وستضطر لذلك، فيما تعاني اسواق المعادن من فائض العرض مع تراجع الاستثمار للانتاج الجديد.

من المحبط لكييف ان تكون اوروبا هي المستفيد الاكبر من فتح مصادر معادن جديدة. وبين النزعة العدوانية المتلقبة لـ"ترامب" وتفوق الصناعة التكنولوجية الصينية والفتور الاقتصادي، أصبحت بكين تعتمد على الصادرات اكثر. كما إن اعتماد القارة الأوروبية على التجارة بحصة كبيرة من الناتج الاجمالي المحلي يجعلها شريكا مثاليا لأوكرانيا. وبما أن بناء المناجم الذي تشتهر به دول الاتحاد الأوروبي يعد أصعب حتى من الولايات المتحدة فإنها توفر فرصا لتوفير التكاليف والتكامل العمودي، فضلا عن نقل سلاسل القيمة المعدنية الى الداخل. ورغم قساوة الكلام والاعتراف بالفجوة المتزايدة بين الدعم المالي الاوروبي والاميركي لاوكرانيا، لم يوجد حتى اليوم ما يجعلنا نعتقد ان الحكومات الاوروبية مستعدة لتقديم تضحيات أكثر لضمان توصل اوكرانيا لاتفاق سلام عادل.

في النهاية، هناك مسألة اساسية وهو ما يرغب الشعب الاوكراني بحدوثه، ولان الثروة المعدنية دائما ما تُعد موضع نزاع سياسي، لذلك هي محل الصراع بين المجتمعات المحلية والعمال والحكومات المركزية وشركات التعدين الكبرى، فقيمة هذه الموارد ليس اوراقا للتفاوض، بل هي أُسس لقطاعات جديدة في اقتصاد ما بعد الحرب.

ربما تسعى روسيا الى حرمان اوكرانيا من هذه الموارد المعدنية او استثمارها، وقد تكون هي هذا المأساة، ما يجعل اوكرانيا تستخدم ثرواتها المعدنية كأداة دبلوماسية عند التفاوض من اجل سلام عادل، وهو وارد ومفهوم اثناء حرب من اجل البقاء الوطني. فمن يتحكم بهذه الموارد سيواجه اضطرابات الاسواق المتغيرة وتقلبها بسرعة، والتي من شأنها ارباك التوقعات وفرض التحديات الجديدة.

عن موقع صحيفة موسكو تايمز الروسية