بغداد : ودق الجميلي
وسط أجواء مفعمة بالروحانية والتقاليد العريقة، يحتفل الصابئة المندائيون في العراق بعيد الخليقة، أحد أقدس أعيادهم، الذي يجسد لحظة انبثاق النور الإلهي وبداية الخلق. في هذه الأيام، تتفتح أبواب السماء للدعوات الصادقة، وتتجلى أسمى معاني الصفاء الروحي، إذ يؤدي أبناء الطائفة طقوسهم المقدسة، من التعميد بالمياه الجارية إلى تقديم الصدقات وتلاوة النصوص الدينية.
يأتي هذا العيد كرسالة أمل وتأكيد على الهوية التاريخية لهذه الطائفة التي تعد واحدا من أقدم المكونات الدينية في بلاد الرافدين. وفي هذا الصدد يقول رئيس الطائفة الشيخ ستار جبار الحلو: إن عيد الخليقة يعد واحدًا من أقدس الأعياد لدى طائفة الصابئة المندائيين، إذ يحمل معاني روحانية عميقة تتجلى في ارتباط الإنسان بعوالم النور والتكوين الأول. وفي تصريح لـ"الصباح"، أوضح الحلو أن أبناء الطائفة يحيون هذه المناسبة السنوية بطقوس دينية وممارسات اجتماعية تعكس إيمانهم العريق وأصالة تقاليدهم. يُعرف هذا العيد بأنه تجسيد لتجليات النور الإلهي، إذ يظهر فيه الخالق العظيم بصفاته السامية، وفقًا لما أوضحه الشيخ الحلو، مبينا أنه "خلال أيام الاحتفال، التي تمتد لخمسة أيام، تتجلى صفات الخالق بشكل متتابع، بدءًا من اليوم الأول الذي يُعرف بصفة "الرب العلي"، مرورًا باليوم الثاني الذي يرمز إلى "معارج العظمة"، ثم اليوم الثالث الذي يجسد "العليم المحيط بكل شيء". أما اليوم الرابع، فيقول رئيس الطائفة إنه يوم "تموز قشطا رب الحق"، في حين يختتم العيد باليوم الخامس الذي تفجرت فيه المياه الجارية، التي يُعتقد بأنها أصل كل شيء في الكون. وأشار إلى أن الصابئة المندائيين يرون أن عيد الخليقة يُمثل بداية الخلق العلوي، إذ يؤمنون بثلاثة عوالم رئيسية، هي عالم النور، وعالم "شلون قشطا" وهو العالم الوسطي، والعالم المادي الذي نعيش فيه، والذي يجمع بين النور والظلام لضمان استمرار دورة الحياة. ويعد هذا العيد فرصة للارتقاء الروحي والتواصل مع العالم النوراني. من جانبه، ذكر مسؤول إعلام طائفة الصابئة المندائيين، رامي الأمير، أنه "خلال أيام عيد الخليقة، يؤدي الصابئة المندائيون مجموعة من الطقوس المقدسة، أبرزها "الصباغة"، أو ما يُعرف بالتعميد، وهي شعيرة دينية تُعبر عن التطهر الروحي والتجدد. كما يتم إعداد "طعام الغفران" وتقديمه إلى أرواح الموتى كنوع من التضرع والرحمة، إضافةً إلى توزيع الصدقات بين الفقراء، إذ تكتسب الصدقات في هذه المناسبة طابعًا خاصًا من حيث أهميتها الدينية والاجتماعية. وأضاف الأمير في حديثه لـ"الصباح"، أن المناسبة تتضمن أيضا تبادل أفراد الطائفة التهاني والزيارات، في تجسيدٍ لقيم المحبة والتآخي التي تُميز المجتمع المندائي"، مؤكدا: "يُنظر إلى هذه الطقوس على أنها فرصة لتعزيز الترابط الأسري والاجتماعي، وإعادة التأكيد على أهمية العادات والتقاليد التي حافظت عليها الطائفة عبر القرون". كما أكد الأمير، أن عيد الخليقة هذا العام حظي باهتمام كبير من قبل المسؤولين والشخصيات العامة، إذ قدم العديد من كبار المسؤولين التهاني للطائفة بهذه المناسبة. ومن بين الشخصيات التي زارت المندائيين وشاركتهم احتفالاتهم رئيس الجمهورية، ورئيس الوزراء الذي أوفد ممثله الشخصي الدكتور حازم وطن، إلى جانب سماحة السيد عمار الحكيم، ووزيرة الهجرة، وعدد من النواب ورجال الدين وشيوخ العشائر. مشيرا إلى أن هذا الاهتمام الرسمي والمجتمعي يعكس مدى الاحترام والتقدير الذي تحظى به الطائفة المندائية، ويؤكد على روح التآخي والتعايش السلمي بين مختلف مكونات المجتمع العراقي. واختتم حديثه قائلا: إن "الطائفة تأمل أن يكون هذا العيد رسالة محبة وسلام، ودعوة لتعزيز الوحدة الوطنية وترسيخ قيم التفاهم والاحترام المتبادل بين مختلف أبناء العراق، على أمل أن يعم الخير والاستقرار على الجميع".