أ.د عامر حسن فياض
تعود الأصول التاريخية للفكر المضاد للثورة إلى ما قبل الثورة الفرنسية 1789. ويعد كتاب المفكر الانكليزي (ادموند برك 1729- 1797م) والموسوم (تأملات في الثورة الفرنسية) أول محاولة فكرية منتظمة لمهاجمة الثورة بشكل عام، والثورة الفرنسية بشكل خاص. وهذا الكتاب يُعبر، بأوضح صورة عن مجمل أفكار (ادموند برك) السياسية، التي تمسك بها في حملته للدفاع عن المستعمرين في امريكا.
لقد كان (ادموند برك) يحقد على من يسميهم بالفلاسفة الباريسيين، ومن يدعوهم بتجريبي الأخلاق الجديدة الوقحين، وبشكل خاص (جان جاك روسو). ولم يكن هذا الحقد بسبب عدم ايمان (برك) بنظرية العقد الاجتماعي التي قال بها (روسو) أو المبادئ، التي تترتب عليها، لا سيما مبدأ سيادة الشعب، لأنه كان، في الحقيقة، يؤمن بهذه النظرية ومبادئها، ولكن حقده هذا يعود إلى قول أصحاب نظرية العقد بكل من العقل والنظرية كأساسين لإقامة وتنظيم الحياة الاجتماعية، وهما في نظره، أساسان غير مناسبين لذلك.
كان (برك) يرى أن التاريخ الاجتماعي لا يتأسس على التأملات العقلية والنظريات بقدر ما يتأسس على رصيد اجتماعي عملي كبير من التقاليد والفطنة والأخلاق المتجسدة في الحضارات والسلوكيات السائدة. وإذا كان (برك) الليبرالي الذي عاصر (آدم سمث) يؤمن بأن البؤس الانساني ذو مصدر إلهي، فقد كان يؤمن أيضاً بعجز الانسان عن أن يصبح السيد المطلق لمصيره، ويرفض كل فكرة أو نظرية تقول بقدرة الإرادة الإنسانية على معالجة هذا البؤس والعجز، كما أرادت الثورة الفرنسية أن تثبت وتفعل. وقد خلص (برك) إلى القول بأن الحرية التي تحققت في فرنسا بفعل الثورة لن تكون إلا مصدراً كبيراً للفوضى. وهذه الثورة عنده ليست اكثر من تعبير عن الغرور الذي لا سابق له، لذلك اقترح أن تكون التقاليد الدستورية غير المكتوبة في انكلترا بديلاً عن الثورة الفرنسية، لما تتميز بها تلك التقاليد من حكمة عميقة تكمن في الاعراف الواسعة والمتناسقة لهذه التقاليد الانجليزية.
فالأعراف عند (برك) هي الركيزة الأساسية، لكل سلطة ونظام حكم في العالم، وأن تقويمه للثورة الفرنسية بأنها تتميز عن الثورات الأخرى بأنها ثورة مذهب وعقيدة ونظرية وأنها أول ثورة فلسفية قام بها الناس ليتنكروا بها للصدفة والحظ ودورهما في التاريخ.
وقد أثارت مبادئ (اعلان حقوق الانسان والمواطن) الذي أعلنته الثورة الفرنسية سخرية (برك)، لما نصت عليه من المساواة بين الأفراد لأن (برك) كان يتمسك بفكرة التباين الطبيعي، وليس بالمساواة بين الناس، سواء تباين في المكان أو في الزمان أو في التجارب أو الخبرات، بما يجعله يرى في المساواة امراً مضاداً للطبيعة. ومن هنا جاء هجومه على الثورة الفرنسية التي اعلنت مثل هذه المساواة. لذلك أصبحت الثورة الفرنسية عند (برك) بمثابة عقاب إلهي للناس على الخطيئة، التي ارتكبوها حين يؤكد أن انتصار هذه الثورة كان مقدراً بفعل العناية الإلهية، وأن الدولة التي تمخض عنها هذا الانتصار هي شر يمكن أن يستمر قائماً لمئات السنين. وبقدر ما كان (برك) في موقفه هذا متشائماً من الثورات، فقد كان يعتقد ايضاً بأن الانسان عاجز عن ايقافها، ولا يستطيع أن يمنع امتدادها، فالأمر في النهاية متروك للعناية الإلهية، التي هي وحدها عند (برك) القادرة على ان تقرر بهذا
الشأن.