هل أصبحتْ إيران سبباً للخلافات الأوروبيَّة الأميركيَّة؟

آراء 2019/07/09
...

د. قيس العزاوي
السؤال الذي يطرحه عددٌ كبيرٌ من المصادر البحثيَّة والصحافيَّة الأوروبيَّة اليوم هو: هل أصبحت إيران سبباً للخلافات الأوروبية الأميركيَّة؟ والجواب الذي تقترحه غالبية هذه المصادر هو الإيجاب، فقد فاقمت مواقف الرئيس الأميركي دونالد ترامب تعقيدات العلاقات الدولية مع إيران وهددت الاتفاق النووي معها. لقد أيقظ الانسحاب الأميركي من الاتفاق النووي الأزمات الصامتة بين القوتين المتحالفتين الأوروبية والأميركية. لذلك يمكن الجزم بأنَّ ما يحدث من توترات وتهديدات وضغوط اقتصادية أميركية على دول الاتحاد الأوروبي سببه الأساس الموقف من إيران.. ولكنْ هل بسبب إيران فقط تحدث هذه التوترات داخل جبهة الغرب؟ السؤال هذا يحتملُ إجابة أخرى تكمنُ في تضارب المصالح مع وحدة الهدف الستراتيجي.. وأسباب ذلك هي التالية:
أولاً: الغرب غربان غرب أوروبي كانت له السيادة عالمياً، وغرب وليد تمتع بالثروة والقوة وهو الغرب الأميركي. كان مشروع التوحد الأوروبي يلقى دعماً أميركياً منقطع النظير عندما أعلن الجنرال شارل ديغول بعيد الحرب العالمية الثانية عن آمله في “توحيد أوروبا من المحيط الأطلسي الى جبال الأورال” حينها حتى بريطانيا التي يعتبرها ديغول ولاية أميركية في أوروبا عبرت عن حماسها بإعلان ونستون تشرشل الرغبة البريطانية بتأسيس “الدول الأوروبية المتحدة”.
ثانياً: بعد الحربين العالميتين توحدت المصالح وولدت جبهة الغرب الجديدة: أمنياً بحلف شمال الأطلسي لكونه المدخل الستراتيجي لحماية الغرب من الاتحاد السوفييتي، وهذا الأخير سارع بدوره لإعلان حلف وارسو، واقتصادياً بمشروع ماريشال والتجارة الحرة. وعلى الرغم من استقلالية قرار دول أوروبا الغربية ومشاركتها في النظام الأمني الجديد، إلا أنها فقدت القيادة المباشرة لأمنها لصالح أميركا. كانت الأولويات الأميركية مواجهة الشيوعية وفتح الأسواق العالمية فسمحت بتكتل أوروبي. لم تعد هذه الأولويات الأميركية كما كانت، فقد انهار الاتحاد السوفييتي وانهار حلف وارسو وأصبحت أوروبا الموحدة الصاعدة تشكل تهديداً ستراتيجياً واقتصادياً للهيمنة الأميركية!
ثالثاً: اصطبغت الخلافات الأوروبية الأميركية بصبغة “ستراتيجية” منذ توقيع الأوروبيين معاهدة ماسترخت في نهاية العام 1991، لتسريع الاندماج بين دول الاتحاد الأوروبي، والعمل على تشكيل جيش أوروبي يوفر الأمن والحماية لدول الاتحاد الأوروبي بمعزل عن أية مظلة أمنية أميركية.
رابعاً: على الرغم من الثقافة الغربية الواحدة والقيم المشتركة مثل الديمقراطية، وحقوق الإنسان، ودولة المؤسسات، فإنَّ انفراد الولايات المتحدة بتحركها الدولي وتقسيم العالم الى أعداء وأصدقاء ومطالبة أوروبا ليس بمشاركتها الرأي ولكنْ بإبقائها تابعاً لها وليس شريكاً. كل ذلك عجَّل ببداية افتراق الطرفين. وها هي إيران تقسِّمُ الغربَ الى جبهتين: أميركية تؤمن بتوجيه ضربة عسكرية لإجبار إيران على التخلي عن برنامجها النووي، وجبهة أوروبية ترفض منطق الحرب والمقاطعة والحصار الاقتصادي وتستمر بالتعامل مع إيران والحوار معها، مقترحة أنْ تقوم أميركا بتقديم حوافز وإغراءات لطهران لوقف برنامجها النووي.
خامساً: يمكن التعرف على حقيقة الموقف العسكري الأميركي إزاء إيران من خلال التقارير الستراتيجية الأميركية التي بدأت تعترف أنَّ التهديدات الأميركية محض ضغوط لفظية واقتصادية ليس إلا، فها هو مايكل آيزنيشتات مدير برنامج الدراسات العسكرية والأمنية في معهد واشنطن يشيد بالعزيمة الإيرانية ويرى “أن إيران تُظهر ثباتاً ستراتيجياً ومرونة تكتيكية، وستختار تفادي الخطوط الحمراء وتفضّل المراوغة والغموض والخطوات المدروسة والصبر، ويحثُ بلاده لكي توازن بين التعقّل وضبط النفس والتصعيد”، مذكراً بمخاوفها من اتساع الحرب، ما حال دون قيامها باستخدام جميع الوسائل. لقد اكتفى ترامب بحملة الضغط الأقصى اقتصادياً وسياسياً من دون أنْ يلجأ لاستخدام القوة كما وعدَ. بل إنَّ مستشار الأمن القومي جون بولتن وهو من اعتى أعداء إيران وسبق أنْ طالب بدكها بالقنابل استبعدَ الصدامَ المسلح معها.
سادساً: صحيح إنَّ دول الاتحاد الأوروبي بسبب الموقف من إيران رفضت العقوبات التي تفرضها إدارة ترامب على شركاتها التي تتاجر مع إيران وإنَّ الدول الأوروبية الموقعة على الاتفاق النووي وهي فرنسا والمانيا وبريطانيا أعلنت بدء عمل الآلية المالية الأوروبية “إينستكس” “Instex” بهدف الاحتفاظ بالاتفاق وضمان التجارة مع إيران من دون تعرض الشركات الأوروبية للعقوبات. ولم تكن إدارة ترامب غافلة عن ذلك فقد اعترض السفير الأميركي لدى ألمانيا ريتشارد جرينيل، على هذه الآلية الأوروبية التي تحاول الالتفاف على العقوبات الأميركية واعتبرها بمثابةعدم احترام لسياسات واشنطن ومسار أوروبي غير ملائم للعمل.
سابعاً: وبناءً على ما سبق يمكن استبعاد أنْ تكون الخلافات الأوروبية الأميركية متعلقة بالموقف من إيران إلا في هذه المرحلة، فالخلافات صورة عن تضارب المصالح التي بدأت كما أسلفنا مبكراً جداً. ومنذ أعوام وعقود ونحن نطلع على خلافات أوروبية واستنكار من عمليات التجسس الاقتصادي والتكنولوجي الأميركي على أوروبا، ناهيك عن الخلافات في قضايا أوروبية في البلقان وقضايا الشرق الأوسط من أفغانستان الى العراق الى فلسطين. لقد بات واضحاً لصناع القرار الأميركي إنَّ توحيد الجهود الأوروبية وانضمام عدد متزايد من الدول الى الاتحاد الأوروربي ينذرُ بقيام كتلة اقتصادية وستراتيجية كبرى تخلقُ نوعاً من موازين قوى جديدة تنافس أوروبا من خلاله الهيمنة الأميركية. لقد حاول الاتحاد الأوروبي منذ عقد ونصف، الإشارة الى فكرة التعددية القطبية في مواجهة الأحادية القطبية الأميركية. والقيام بإصلاح الحلف الأطلسي وهيكلته لكي لا تخضع قراراته للرغبات الأميركية من دون تشاور مع الدول الأوروبية الأعضاء فيه.
ثامناً: ولا تخشى صعود القوة الأوروبية الولايات المتحدة فحسب بل الاتحاد الروسي أيضاً لذلك عملت الدولتان كل منهما بطريقتها الخاصة لتقويض الاتحاد الأوروبي.
وكما نرى فإنَّ ضفتي الأطلسي على الرغم من الحلف الذي يربطهما لم تعودا تشكلان جبهة غربية واحدة لا شرخ في بنيانها، فقد زاد الرئيس الأميركي ترامب طين الخلافات مع أوروبا بلةً كما يقولون. وبنحو يحمل السخرية ويثير ضغينة الأوروبيين كثرت انتقاداته للقارة العجوز وعظمت شروطه عليها ولأول مرة أخضعها لعدد من العقوبات الاقتصادية، وبهذا قام بتسريع رغبتها بالتحرر من الهيمنة الأميركيَّة والتعجيل بالبناء الأمني والاقتصادي والعسكري الأوروبي.. وهكذا يمكن القول لم يعد هناك وقتٌ للعتاب فقد بدأ 
الحساب!