ساطع راجي
أدرجت منظمة اليونسكو مدينة بابل الأثريَّة على لائحة التراث العالمي، وجاء إدراج المدينة الشهيرة ضمن قائمة ضمت 14 موقعاً آخر حول العالم في اجتماع للجنة التراث العالمي التابعة لليونسكو عقد في العاصمة الاذربيجانية باكو مطلع شهر تموز الحالي، وكان العراقيون هم الأكثر اهتماماً واحتفالاً بإدراج معلمهم في لائحة التراث العالمي، ليس فقط لأنَّ بابل لا تقارن بمكان آخر في العالم فهي البداية الانسانية الأكثر شهرة وإشراقاً والمدينة الأكثر حضوراً في ذاكرة الإنسانيَّة، ولا لأنَّ الإدراج كان مجرد إدانة للتشويه الإجرامي الدعائي الذي قام به النظام السابق بعد طول صمت.
ولم يكن الاهتمام العراقي واضحاً مقارنة بالدول والمجتمعات الأخرى التي تم إدراج مواقعها في لائحة التراث لأنَّ الانتظار العراقي كان طويلاً ولهفة العراقيين للاعتراف بمدينتهم التاريخية كبيرة فقط، فهذه المدينة ليست غائبة عن الذاكرة وهي ليست مكاناً عابراً ولا محطة سياحية عادية وهي ليست مجرد منطقة آثارية تصلح للتنقيب أو لا تصلح، إنها بابل.. وكفى.
احتفال العراقيين واهتمامهم بإدراج بابل في لائحة التراث العالمي يعبر عن حلم بالاطلال على العالم وعلى المستقبل من نافذة واسعة، نافذة يقدرها العالم ويعترف بها ويمجدها، نافذة تتجاوز الخلافات اليومية العتيقة وتخرج العراقيين من ظلامية التاريخ الى بقعة نوره الشاسعة التي تعترف بالتنوع والخلود والإبداع، فبابل هي مجازفة الإنسان الكبرى ضد الخوف والمجهول ومحاولته البدئية الجريئة للاكتشاف التي انطمرت لاحقاً في نفوس العراقيين الذين يدركون بأنهم يمتلكون قوة كبرى لكنهم لايعرفون الطريق إليها بعدما تراكم فوقها طين التاريخ وطبقاته الترابية السميكة.
احتفال العراقيين ببابل هو احتفال بما يوحدهم، واحتفال بالقوة الكامنة وبالعقل العراقي الاول، العقل الجريء.. عقل السؤال والبحث والتحدي حتى تبدو بابل وكأنها حبل نجاة يتمسك به الصادق والكاذب، العارف والجاهل، بعدما تبين وهن الحبال الاخرى التي وإن كانت تنتمي للتاريخ أيضا لكن شتان بينها وبين بابل التي تقدم مثالاً لاختراق المستقبل بالعمل والوعي والقوة والطموح والفرح بالحياة.
الحضارات العراقية كثيرة ومتلاحقة لكنَّ بابل كانت تمثل دوما ايقونتها واختصارها وديمومتها واسمها الاشهر ومكانها الاسمى وعلامتها الاوضح ومغامرتها الأمتع والأخطر، لذلك هي ليست مدينة ولا موقعاً أثرياً بل حلبة صراع ومسرحٌ للمواجهة ليس بين أقوام وحضارات، بل بين العراقي ونفسه في اختيار منهج المستقبل.
إنَّ خطوة إدراج بابل على لائحة التراث العالمي التي تحققت بجهود كبيرة قادتها وزارة الثقافة ووزيرها الآثاري الشهير عبد الأمير الحمداني ستكون فرصة للعراقيين لإعادة التعرف على هذه المدينة العظيمة وما أنتجته من حضارة بعيداً عن الاختزال المدرسي والحروب الدعائية، وهو ما يعني الحاجة لإطلاق مشروع كبير يعيد تعريف العراقيين بمدينتهم الأعرق، مشروع يتضمن اطلاق برامج دراسية بحثية واعلامية لا تخص الآثار فقط بل تشمل التعريف بكل نواحي الحياة العراقية القديمة انطلاقا من بابل وتعاون مختلف الجهات السياسية والأكاديمية والإدارية والاعلامية التي احتفلت بإدراج بابل على لائحة التراث العالمي لإنجاز هذا المشروع سيكون معياراً لمصداقية اهتمام ومعرفة هذه الجهات بقيمة بابل ودورها الحضاري.