للوهلة الأولى يبدو عنوان المقال متناقضاً، حيث التصور العام هو التقابل والتقاطع الكلي بين المعارضة والحكومة في جميع المسارات السياسية، بدءاً من المشاركة الوزارية وليس انتهاء بالمناهج والرؤى والمشاريع.
ولكن الحقيقة الموضوعية تشير الى أن نقاط الالتقاء المباشرة وغير المباشرة بين المسارين في الأنظمة الديمقراطية ليست بقليلة، ولا يمكن تجاهلها من قبل الموصوفين برجال الدولة من أصحاب الوعي والآفاق الواسعة المتواجدين في الفريقين.
رجال الدولة الحكوميون ما أن ينظروا الى المعارضة كنعمة لا كنقمة وكفرصة لا كتهديد وكتحد لا كمعركة حتى يبدؤوا بحصد مكتسباتها الكبرى ضمن مسارات التنافس والعمل السياسي المفروز.
لا شك ان المصالح الكبرى والخطوط العامة والحمراء للدولة والتي لها مساس مباشر بالمصلحة الوطنية ومصالح المواطنين، وأيضاً التحديات والمخاطر التي من الممكن أن تتعرض لها البلاد تعتبر من نقاط الالتقاء المباشرة بين الحكومة والمعارضة والتكاتف الجمعي بينهما.
أما نقاط الالتقاء غير المباشرة التي نعتقد بأنها ما أن تحدد وينظر لها من زاوية مختلفة حتى تصبح مكتسبات رئيسة ومساندة للعمل الحكومي وفاعلة ولكنها بحاجة الى تفهم وإدراك عالي المستوى من الحكومة.
وجود المعارضة الوطنية بحد ذاتها وفاعليتها وحراكها السياسي الجاد تعكس بالضرورة مدى التزام ووعي الحكومة بأهمية الرأي الآخر واحترامها للتعددية والاختلاف السياسي والحريات المدنية، وهو الأمر الذي يمكن للحكومة أن تستثمره في نقاوة ممارستها للسلطة وسلوكها القيادي القويم في إدارة البلاد.
خلو السجون من المعارضين السياسيين، وعدم تكميم الأفواه وحماية المعارضة أمنياً وقانونياً وعدم عرقلة حركتها بل تقديم التسهيلات اللازمة لعملها والتعامل الشفاف والواضح معها تعتبر جميعها نقاط قوة للحكومة وانعكاساً لثقتها بقدراتها القيادية، كما ان العكس سيخدش هيبتها ومكانتها الاجتماعية والسياسية والمعنوية.
من جهة أخرى في الأنظمة الديمقراطية التوافقية التي تتشكل الحكومة فيها لا على أساس الأغلبية والأقلية بل على أساس المشاركة والممانعة من قبل قوى متعددة، فيمكن للحكومة استثمار قوى المعارضة في إحداث التوازن السياسي بين القوى الداعمة لها وتخفيف الضغوطات السياسية التي تمارس من الأخيرة على رئيس الحكومة بغرض رفع المكتسبات الحزبية.
الأداء الضاغط للمعارضة وصوتها المرتفع والمنافس للحكومة والقوى المشاركة فيها، يمكن استثماره ايجابياً في فك الخناق السياسي الداخلي وتخفيف كاهل الحكومة من التزاماتها اتجاه حلفائها بمرونة وسلاسة سياسية أكبر.
كما ان الضغوطات الخارجية المحتملة التي تمارس على الحكومة من الممكن التملص منها والتخفيف من حدتها بدعوى وجود معارضة قوية ورأي عام ضاغط ومشاكس، لتصبح ورقة مناورة في المفاوضات والعلاقات الخارجية، كما هو حاصل في عديد من البلدان الديمقراطية التي تستثمر أصوات المعارضة الداخلية في مفاوضاتها الخارجية لتقليل الخسائر أو تحسين شروط التفاوض أو رفع سقوف مطالبها أو التهرب من التوقيع او الالتزام.
اما الملفات العالقة والمعقدة كمحاربة الفساد وحصر السلاح بيد الدولة وتفكيك الدويلات العميقة، فبالتأكيد رئيس الحكومة غير قادر على المضي بها وحلحلتها من دون وجود معارضة قوية وضاغطة وفاعلة، خاصة إذا كان كثير من هذه الملفات مصاحباً لقوى مشاركة في الحكومة وصاحبة نفوذ وتأثير في قراراتها.
من ناحية أخرى المعارضة ستخلق روح الانضباط والتنافس والتحدي البناء في داخل الكابينة الوزارية، حيث يسعى كل اعضائها للتخلص من سهام النقد والمتابعة من خلال رفع المنجزات وتقليل الأخطاء في الأداء، ما يساعد على إنجاح المسؤوليات الحكومية.
من دون وجود معارضة فاعلة ستدب روح الاتكالية والجمود وعدم تحمل المسؤولية في جسد الحكومة وستكون التبعات كاملة موجهة نحو رئيسها دون غيره، لضبابية الموقف وضياع الأداء وتشتت
الفريق.
المعارضة الوطنية القانونية ضمانة رئيسة لاستقرار الدولة والحكومة وتحجيم مخاطر الفوضى والعبثية والأجندات المفاجئة والخفية.
تعامل الحكومة مع معارضة واضحة تحت إطار القانون، معروفة الأدوات والأساليب، أكثر ضمانة لاستقرارها من أي مظاهر رفض أو اعتراض، مجهولة الهوية والقيادة والأسلوب.
رجال الدولة الواعون لأهمية المعارضة الوطنية في الأنظمة الديمقراطية بإمكانهم تبديل التهديدات السياسية الى فرص نجاح ومكتسبات حكومية كبرى، فالمعارضة قليلة المؤونة كثيرة المعونة، زاهدة بالمواقع، ضاغطة على الإنجاز وهذه كلها ادوات نجاح لا إفشال ونقاط التقاء لا تقاطع.