استقالة مارد المصباح!

آراء 2019/07/28
...


محمد الحداد
وجدَ أحدُ الزعماءِ العرب مِصباحَ علاء الدين..دَعكهُ بيدهِ فخرجَ منهُ ماردُ المصباح وقال لهُ:تمنَّ ما شئت وسأحقق لكَ أمنيتك..قال الزعيم أريدُ أن تبنيَ لي قصراً فخماً من المجوهراتِ الثمينة..فقال المارد:هذا طلبٌ مستحيل لا استطيع تنفيذه..أطلب أمنية أسهل فأنفذها لكَ فوراً..فقال الحاكم:إذن أريدُ أن يحبني شعبي..فردَّ المارد:هل تريدُ القصرَ من الذهب أم من الياقوت؟
في الحقيقة أنا أتفهمُ تماماً الورطة التي وقعَ فيها هذا المارد المسكين..فهو موقفٌ محرجٌ وصادمٌ بلا شك..فليس هيّناً عليهِ أن يخرجَ من قمقمهِ الضيق بعد انتظارٍ طويل ليجدَ نفسهُ بين يَدي زعيمٍ نهمٍ مُعتق لطولِ تربعهِ على العرش ويطلب منهُ أن يحبهُ 
شعبه..وهو بالتأكيد طلبٌ أصعبُ من المستحيل.
عموماً..هذا اللون من الكوميديا السوداء هو محاولة فاشلة للهرب..وذاكرتنا العربية ممتلئة بطرائف كهذه..هي فسحة ضيقة بين الجدِّ والهزل تتنفسُ منها شعوبنا قهقهةً مكتومة مُبللة بالدموع..ويبدو أن اللجوءَ الشعبي لهذا النوع من الطرائف الخطيرة يشبهُ رمية حصاةٍ خائفة وسط ظلامٍ دامس..لكننا نلجأ إليها أحياناً من فرطِ اليأس..ربما لأن هذهِ الطرائف توهمنا أن بوسعها أن تمدَ إلينا يداً حانية تربتُ على كتفِ أوجاعنا..أو لعلها تشبهُ طوقَ نجاةٍ أخير نظنُّ أن بوسعهِ انقاذنا من الغرقِ في بحارِ مآسينا وانتشالنا منها نحو أرض الأحلام..أترانا صَدّقنا أن الطرفة هي ثورة صغيرة كما يقولُ الروائي جورج أورويل؟
عموماً..وبعيداً عما يُغلفُ نكتة المارد والزعيم هذهِ من فكاهةٍ واضحة..دعونا نغوصُ عميقاً في لبّها الغائر لنسأل هذا السؤال: ما مبعث هذا اليأس الذي استوطنَ كُلاً من المارد والزعيم معاً حتى وصلا إلى قناعةٍ تامة بأن حبَّ الشعوبِ لزعمائهم هو ضربٌ من المستحيل؟ في المقابل..ما الذي فعلهُ زعماء آخرون حتى نالوا حبَّ واحترام شعوبهم لهم؟
إذ ثمة بالتأكيد زعماء طيبون أدركوا مبكراً وبوعيٍّ مُسبق أنهم محضُ موظفين سخّرتهم الأقدارُ من أجل أسمى مهمةٍ على الاطلاق وهي خدمة شعوبهم من مواقع أعلى..وما كان لذلك أن يتمَّ ابتداءً لولا قرار الشعبِ الذي اختارهم بنفسهِ بعد أن توسمَ فيهم القدرة على خدمتهم فوقفَ خلفهم ووثقَ بهم وأوصلهم بأصواتهِ إلى مواقعِ صُنعِ القرار لفترةٍ اتفقَ الطرفان أنها محددة سلفاً..في الوقت الذي ينعمُ فيهِ زعماؤنا المُعتّقون بأحلامِ خلودهم المقدس.
شعوبٌ كهذهِ وضعوا هؤلاء الزعماء في اختبارٍ قاسٍ ووزنوهم بميزانِ الانجازات الحقيقية التي صنعوها على الأرض بعيداً عن العاطفة الجوفاء التي تشبهُ سراباً مُضللاً وسطَ الصحراء..فإذا نجحوا في اختبارِ الشعب هذا يمكنُ بالبداهةِ آنذاك أن تلتحقَ تجاههم عواطفُ الحبِّ الصادقة..وحينها ربما سنعذرُ شعوباً كهذهِ تجاوزت بحبها لزعمائها حدودَ التعقل..أما إذا فشلَ هؤلاء الزعماء في هذا الاختبار فليس غريباً أن يركلهم الشعبُ ويحرقَ أسماءهم ويرميها في سلةِ النسيان ليبحثَ عن الأصلحِ والأكفأ.
هذهِ هي المعادلة الحقيقية التي ينبغي أن تحكمَ العلاقة بين الشعوبِ وزعمائها والتي ربما تبدو بظاهرها للبعض أشبهَ ما تكون بصفقةٍ تجارية مُتحجرة لاعاطفة فيها.. لكن الحقيقة أنها معادلة واقعية تماماً لأنها من جهةٍ تخضعُ لمنطق العقل كونها وضعت هؤلاءِ الزعماء على محكِّ الانجازات الحقيقية..ومن جهةٍ أخرى أثبتت نجاحها الفعلي على أرض الواقع..ولا يجب أن ننسى أبداً أن صفقة الحاكم والمحكوم هذهِ قد تمتْ مُسبقاً بموجبِ عقدِ منفعةٍ متبادلة بين طرفين تساويا في الوعيِّ والمسؤولية بعيداً عن التمترسِ خلفَ أيديولوجيةٍ ضيقة أو تعصبٍ حزبيّ أو قبَليّ أو فرديّ يصلُ حدَّ التأليهِ والتقديس.
أخيراً..واستكمالاً للطرفةِ التي ابتدأنا بها المقال..فقد علِمنا أن ماردَ المِصباح المسكين بعدَ أن بنى للزعيم قصرَهُ الثمين..اعتزلَ إلى الأبدِ مِصباحَهُ العتيد..وسكنَ القِفارَ والبيد..وتركَ كلَّ مغامراته..وتفرغَ لكتابةِ مذكراته..حتى بدا عليهِ التبلد.. وأصيبَ بمرضِ التوحُد!