يحظى موضوع محاربة التطرف في المجتمع العراقي المعاصر باهتمام الباحثين في مجال علم الاجتماع والانثروبولوجيا والتخصصات ذات العلاقة من اجل تقديم رؤية علمية موضوعية لكشف أسباب المشكلة، والتوصل الى نتائج علمية، ومقترحات إجرائية توضع أمام الجهات التخطيطية، وأصحاب القرار في الدولة من اجل صياغة استراتيجية متكاملة لبناء مجتمع خال من التطرف والعنف، لكي يعيش الجميع بسلام ، ولا شك أن ذلك مرتبط بفك إشكالية الجدل بين الجهود لمحاربة التطرف، وأهمية وجدوى الحوار الوطني لتكون مخرجاته بناء مشروع وطني عماده إقامة التنمية البشرية لإشباع حاجات الإنسان العراقي والمعروف أن تحقيق هوية وطنية لا يمكن إنباتها إلا بإشباع الحاجات الإنسانية على وفق سياسات عادلة وبتطبيق القانون وإقامة الدولة المدنية التي يتساوى فيها الجميع في الحقوق والواجبات .إلا أن ذلك لا ينفصل عن أهمية تحليل المتغيرات الداخلية والخارجية المؤثرة في الحوار الوطني.
العمل على إقامة مشروع وطني للحوار والتعايش السلمي في المجتمع العراقي المعاصر.إذ تتفاعل أهمية الموضوع بطريقة فائقة ،نظرا لتفاعل متغيرات داخلية وخارجية مؤثرة في الحياة المجتمعية العراقية ، تهدد كيان المجتمع وتشكل تحديا حضاريا لم يشهد له المجتمع مثيلاً من قبل، ولاسيما في تاريخه الحديث ،ولا شك أن المتغيرات الداخلية تتصل بحالة مجتمعية تحتاج إلى رؤية علمية للتصدي لها، ورسم خريطة ثابتة الأبعاد لمعالجة الظروف الاجتماعية والاقتصادية والثقافية التي يعاني منها المجتمع ،بعد سلسلة من الأزمات والحروب والتوترات النفسية والاجتماعية أثرت في شخصية الفرد العراقي في بيئاته المختلفة، ولعل ابرز المتغيرات الداخلية تتصل بتحدي البطالة والفقر ونقص الخدمات الصحية والتعليمة والترفيهية، وحالات الفساد المالي والإداري، وحالة الاغتراب التي يشعر بها الفرد العراقي في حياته المعاصرة ومشكلات الأسرة ومشكلات الشباب وإشكالية تشكيل ثقافة شبابية جديدة متفاعلة مع وسائل الاتصال الحديثة ومعطيات ثورة المعلومات فضلا عن مشكلات النزوح وآثاره النفسية والاجتماعية فضلا عن مشكلات المرأة العراقية، وأزمة الثقافة والمثقفين وغيرها، وهي في إطارها العام تشكل تحديات ضخمة أمام فكرة الحوار في المجتمع العراقي المعاصر،ولكي يأخذ الموضوع أبعاده الموضوعية والعملية لا بد من قيام الدولة ووزاراتها المعنية ولاسيما وزارة التخطيط والتعاون الإنمائي بوضع استراتيجيات فاعلة وبمشاركة الأهالي فيها ،للحد من تأثيراتها السلبية في امن المجتمع وثقافته،كما أن المتغيرات الخارجية لا تزال تلعب دورا مؤثرا في إعاقة الحوار الوطني، ولعل ابرز هذه التحديات هي التدخلات الخارجية في الشأن العراقي ،وتعميق الخلافات المجتمعية فيه، وتأثير وسائل الاتصال المختلفة في الحياة الاجتماعية والثقافية العراقية،فضلا عن تأثير ثقافة العنف والإرهاب التي لم يعرفها المجتمع العراقي من قبل ، وتحديات أخرى تعمل بالضد من حيثيات الثقافة العراقية الوطنية الداعية للتسامح المجتمعي والثقافي والداعمة للتعايش السلمي الذي عرفه التاريخ الحضاري العراقي ، وهي تحديات تتطلب وضع تفاهم سياسي وشعبي يقوم على أساس تعزيز العمل الوطني وان يحل العراقيون مشكلاتهم بأنفسهم، وهو أمر يتطلب إرادة سياسية وشعبية صارمة،للخروج من الأزمة وتأسيس برنامج حقيقي قائم على النية الصادقة لتخليص البلاد والعباد من حالة الفوضى ونقلها إلى حالة الاستقرار والديمقراطية التي بها يمكن للعراقيين أن يختاروا برنامجهم الوطني العابر للطائفية والعرقية، وهذا عمل من الممكن إذا علمنا أن كارزمات الثقافة العراقية تعمل بهذا الاتجاه، وتؤشر على قدرة المجتمع العراقي من الحفاظ على وحدته وثقافته فقضايا الجغرافيا والإنسان والتاريخ كلها تعمل من اجل ذلك.
وعلية فان دراسة ذلك ينبغي أن تجرى ضمن سلسلة من الإجراءات أولها، إظهار إشكالية التطرف والاعتراف بها باعتبارها تدخل ضمن حلقة قاعدة منطقية يتحلى بها الإنسان العراقي من حيث الظاهر والمتعايش اليومي بميله للتعايش والتعاون أكثر من ميله للصراع. وكذلك العوامل الداخلية المشجعة للحوار الوطني، وكذلك الى تحليل المتغيرات الخارجية التي تعمل على إعاقة الحوار الوطني في المجتمع العراقي.
إن وضع آلية معرفية لمحاربة التطرف ينبغي أن تبدأ من الأساسيات في تكوين شخصية الفرد، ولعل أولها التنشئة الأسرية التي ينبغي أن تقوم على أسس جديدة وهي مهمة تحتاج الى ثورة ثقافية تضع الدولة استراتيجيتها من خلال المؤثرات الاجتماعية والثقافية التي ينبغي أن تعزز القيم الاجتماعية الايجابية وقبول الآخر ضمن خطة تربوية تبدأ من الأسرة مع توجه إعلامي يعزز القيم الاجتماعية الداعية للتسامح والتعايش السلمي على وفق قيم احترام الآخر ونبذ كل أشكال التطرف من التمسك بالرأي بتعزيز قيم الحوار وبناء منظومة اجتماعية تعزز الولاء للوطن بصفته قاسما مشتركا للجميع، وثانيهما التركيز على تنشئة جيل جديد بمناهج دراسية تعزز القيم المعرفية والاجتماعية التي تؤكد المشتركات الوطنية ،وهو لا يأتي إلا من خلال إعداد معلمين أكفاء علميا وفكريا وذوي نظرة واسعة تتجاوز كل الحلقات الضيقة، مع العمل بكل الإمكانيات المتاحة عن إبعاد التأثيرات الأيدولوجية المتطرفة التي إذا ما استفحلت في مجتمع من المجتمعات أحالته الى حلبة صراع لا يجني احدا من وراءه شيئا.
إن إمكانية محاربة التطرف متوفرة في حيثيات الثقافة العراقية منذ القدم ، فهي ذات بعد مدني تعايشت في كنفها مختلف الثقافات الفرعية في بوتقة التنوع الثقافي الذي طالما أنتج لنا إبداعات حضرية متعاقبة خلال التاريخ.