الاغتراب الداخلي

آراء 2019/08/01
...

عدنان أبوزيد
يُفترض في الأنظمة الديمقراطية، اقتدارها على خفض مناسيب الشعور بالاغتراب لدى الفرد، الى أدنى درجاته، إنْ لم يكن بشكل مطلق، بسبب منافذ حرية الرأي، وفعالية الانتخابات، التي تصطفي الأفراد القادرين على إدارة البلاد، فضلا عن تحجيم الفجوات الاقتصادية، والاجتماعية بين المواطنين.
الفرد العراقي عانى من "الاستلاب"، قبل العام 2003، بعد أنْ سرقت السلطة وأجهزتها، اغلب خياراته، حتى الحياتية منها، مثل السفر الى خارج البلاد، والتواصل مع الاخرين من دون رقيب، ليعود ويعاني من "الاغتراب" بعد سقوط حقبة الحصارات والحروب، وهو ما لم يكن متوقّعا، في بلد خرج من العزلة والانطواء.
انزوى الفرد من جديد الى اغتراب "مادي"، لشعوره المتنامي بانّ بلده "غني" وهو "فقير"، وكذلك الى تغرّب "معنوي"، وتحديدا أكثر، "وحشة ذهنية"، لشعوره بخيبة أمل، نتيجة تفشي الفساد، وعدم قدرة الانتخابات، على تحقيق المشروع المتخيّل في ذهنه.
الاغتراب الخارجي، يمثله طيف واسع من العراقيين في خارج البلاد، وهو وليد تهجير قسري قبل 2003، وبعده، ومن صفاته أنه ظاهر، صريح. أما الاغتراب الداخلي، فهو شعور "كامن" في ذات الفرد، وخفيّ، ضمني، في الغالبية المطلقة من حالاته، ما يشكل خطرا داهما على سلوك الفرد، وشخصيته، ومستقبل علاقته مع الوطن. بل انّ الاغتراب "الداخلي"، على الأرجح، أكثر إيلاما، للمشاعر من "الخارجي"، لأنه يتفاعل مع ظروف اجتماعية وسياسية واقتصادية، عاطلة، تؤدي الى الانفصام والعزلة والعدوانية، بينما "الخارجي"، على الرغم من أوجاعه، يجد في استقرار الحياة، وتوفّر الخدمات في دول المهجر، مواساةً له على مشاعره الاغترابية. 
أكثر منتجات الاغتراب، بشقّيه الداخلي والخارجي، هو الإحباط، الذي يدفع الفرد الى الفرار من الواقع، اما بالعودة الى الماضي، واستحضاره فكراً، وعواطف، أو التفكير بالهجرة الى خارج البلاد، في ابتعاد جسماني عن الأرض، بينما مغترِب الخارج، تضمحل عنده إرادة العودة الى الوطن، بسبب الشحن الذي يولده أولئك المغتربون الداخليون، الذين ينصحونه بعدم العودة.
لا أحد ينكر انّ العراق بلد ديمقراطي، ومهما كانت مثالب حرية التعبير وحقوق الانسان فيه، وما يتخللها من سلبيات، الا انه من أكثر البلدان العربية، إحقاقا للحرية. ومع ذلك، فانّ ثلاث عمليات انتخابية، لم تنسحب على المواطن وشعوره بالاغتراب الداخلي، نفسياً، وجسدياً، الأمر الذي يدفعه الى ابتكار أساليب غير نمطية في الفرار من الواقع، المثخن بالوعود المخادعة.
يصعب الخوض في هذه العجالة في الأسباب الكثيرة، وراء الاغتراب، ومنها رمي الكفاءات في النفايات، والشعور بالهزيمة الحضارية، وتذوق حلاوات زائفة من انتصارات عسكرية منذ احتلال فلسطين الى الحرب العراقية الإيرانية، وتوجيه الاحداث والمستقبل من قبل نخبة لا تسمع رأي الناس، فضلا عن الفساد المالي والإداري، وسوء توزيع الثروة.
كل ذلك جعل العراقي يرى نفسه وقد استبدل دولة "استلابية" بأخرى "اغترابية".
أميل الى القول، ان واحدة من مجسّات الاغتراب الداخلي العراقي، هو دأبه على المقارنة بين حاله، وما وصلت اليه الشعوب الأخرى، وتجد ذلك راسخا في ادبيات الفيسبوك الشعبية، المعبّرة عن الرأي الشعبوي، حيث تجد الفرد العراقي مسلوب الثقة بنفسه ووطنه.
أبرز أنواع الاغتراب الداخلي، هو النمط السياسي، الذي يخل بالعلاقة بين المواطن والمؤسسة الحكومية، ومرد ذلك الى شعور الفرد، بانه مُستلب القيمة ومهمّش، أمام السلطة، فضلا عن استشعاره، بانها هي المسؤولة عن تردي الأوضاع الخدمية، بوجه خاص.
الحاجة على أشدها الى نخب سياسية وادارية في المؤسسات المختلفة، تعيد إدغام الفرد في الدولة، وتفعّل المشروع صاحب الأولوية، وهو قطاع الخدمات، الذي يضرب على وتر الاغتراب الداخلي، النفسي والسياسي.