“لا أمل لكوريا”، بهذه الكلمات القاسية والمؤلمة تحدثت الكاتبة الانگليزية ازابيلا بيرد (١٨٣١-١٩٠٤)، عندما أصدرت كتابها الموسوم “كوريا وجيرانها” عام ١٨٩٨، مستندة في استنتاجها هذا الى عدم قدرة الكوريين على الاجتهاد، وتنفيذ المشاريع التي يمكن ان تنقذهم من براثن الفقر الذي كان يسحقهم سحقا .. وربما ان الكوريين أنفسهم كانوا مؤمنين بما كتبته “بيرد”، لاسيما مع تفاقم الأزمات وعدم وجود أي حلول، في الوقت الذي كانت الثروات تتركز في القسم الشمالي من الجزيرة الكورية، أما القسم الجنوبي، فقد كان يفتقر لأي شيء، ثم جاءت الحرب ١٩٥٠-١٩٥٣ لتمزق كل شيء، وتفشى الفقر بنحو لم يسبق له مثيل بعد ان حصد بمنجله ارواح نحو نصف مليون إنسان كوري، ففي عام ١٩٦١ كان متوسط دخل الفرد السنوي في كوريا الجنوبية هو الأوطأ، بعد ان تدني الى اقل من ٩٠ دولارا !!
كانت كوريا بحاجة الى معجزة تنتشلها من الهاوية المظلمة التي انحدرت اليها، فقد كانت تدور في حلقة مفرغة من الادخار والنمو المنخفضين، وهنا لم يكن أمام هذه الدولة المنهارة بالكامل سبيل سوى اللجوء نحو القروض الخارجية، لإنقاذ ما يمكن انقاذه من شعبها الذي بات حصيدا، وقد دفعت تلك الظروف العسكر الى سدة الحكم بعد انقلاب عام ١٩٦١، بدعم من الادارة الامريكية التي كان يديرها الرئيس كندي .. وعلى عكس كل التوقعات، والخشية من العسكر، كان ذلك الانقلاب، بداية التغيير الحقيقي في كوريا،ليعود الامل قويا بالضد من نظرية الكاتبة “بيرد” المحبطة .. ركز زعيم الانقلاب تشيونغ هي على اعادة الاعمار والتركيز على النهوض بالصناعة، في إطار خطط تنموية خمسية، والاهتمام بمراجعة النظام الضريبي، الذي واجه تحديات صعبة يقودها الفاسدون، ولكن كانت الحكومة مصرة على امضاء قراراتها الإصلاحية فتضاءل الفاسدون، وبدأت الإيرادات الضريبية تشهد زيادة في معدلاتها، وقبل ذلك قرر قائد الانقلاب، إطلاق سراح رجال الاعمال المتهمين بالفساد، شريطة ان يوفروا قروضاً اجنبية، بشروط ميسرة ... ومن هنا بدأت ملامح النهضة الكورية تتضح شيئا فشيئا، مستندة الى رباعية النجاح، وهي، التشاور المشترك - التنسيق - المرونة - التنفيذ الشديد، وهذه الأخيرة مهمة جدا، فالشدة في التنفيذ هي الضمانة الاولى في تحقيق الهدف المنشود .. قفز الكوريون بسرعة البرق، فأحرقوا جميع المراحل،على أسس رصينة من البناء، ليتحول حالهم من دولة فقيرة، وشعب معدم تماما، الى دولة صناعية لها بصمة مهمة في المشهد العالمي، وليرتفع متوسط نصيب الفرد السنوي من ٩٠ دولارا الى اكثر من ٣٠ الف دولار .
والسؤال هنا، مالذي يمنعنا من ان نصبح مثل كوريا الجنوبية ، ونحن نمتلك مؤهلات وامكانات وقدرات كثيرة، ليس لديهم عشر ما لدينا ؟
هل نحتاج الى انقلاب عسكري، لكي نمضي صوب منصة التنمية ؟ .. كلا أبداً، فقد سبق وان جربنا الكثير من الانقلابات، ولعل كل ما نواجهه اليوم من مشاكل، إنما هي من “منجزات” تلك الانقلابات” .. إذن، ما الذي ينبغي القيام به، وفق ما نملكه من امكانات ؟ هل ستكون القروض الخارجية سبيلا، لما نريد تحقيقه من تنمية ؟.. اعتقد اننا جربنا هذا السبيل، ولم تكن نتائجه سوى الكثير من الأعباء والقيود، التي ستمتد اثارها للأجيال القادمة..اعتقد، بتواضع ان الحل يكمن في اتخاذ سلسلة من القرارات الصارمة المتعلقة بتحسين نظام الضرائب، فقطاع مهم مثل الضرائب، يمثل مرتكزا تنمويا مستداما، كما ينبغي ان تكون خطط التنمية ملزمة وعدم السماح بالحيود عنها قيد انملة، فالتنفيذ مهم، ومهم جدا، لذلك نجح الكوريون عندما اتبعوا الشدة في التنفيذ، شريطة ان يكون تنفيذا عادلا، مع معالجة المفاصل المتكلسة في الدولة، وتشريك القطاع الخاص في القرار والتنفيذ، وتحسين بيئة الاستثمار، وتنمية القطاعات الأخرى غير النفطية، لتقليل الاعتماد على النفط، والأهم من هذا وذاك، ضرورة ابعاد ملف التنمية عن السياسة .. عند ذاك يمكن ان نتحدث عن تنمية افضل من تلك التي حققتها كوريا الجنوبية التي لم تكن تمتلك قيراطا واحداً.