لا تتمتع نصائح صندوق النقد الدولي بالشعبية كما ان نصائحه لا تؤدي الى النتائج المرجوة غالبا غير أن أرقامه وتحذيراته واقعية، وفي أحدث تحذيرات له أشار الصندوق الى أن الحكومة العراقية “تسرف” في الانفاق بطريقة تهدد أي تقدم اقتصادي، وكلما انطلق حديث عن مشاكل الاقتصاد العراقي انفجرت التبريرات والتفسيرات القديمة من نوع “العراق دولة ريعية وتعتمد على النفط فقط ومعظم الاموال تذهب الى رواتب الموظفين”
وهذا أقل من ثلث الحقيقة فالثلث الثاني يقول إن جهاز الدولة العراقية لم يعد قادرا على ادارة الاقتصاد بطريقة تواكب العصر لاختلالات قانونية وفنية وحتى تكنولوجية، أما الثلث الثالث فهو المتعلق بعدم سيطرة الدولة فعليا على كل منافذ ريعها بسبب الالتباسات الامنية والسياسية وتزاحم القوى الداخلية في الاستيلاء على موارد الريع والممتلكات العامة.
إن التركيز على ريعية الدولة وثقل رواتب الموظفين سهل ولا يؤدي الى مشاكل عند الحديث عنه، وإذا لم يكن في اليد غير التحكم برواتب الموظفين لتقليص الاعباء فإن الاجدر بالدولة أن تنتقل من سياسة التعيين والادارة المتواصلة لمؤسسات خاسرة الى مفهوم الرعاية الصريحة والمباشرة، فمن غير المبرر ان يتحول التعيين على ملاك الدوائر والشركات الحكومية الى مجرد حيلة لإيصال المال الى المواطنين او الى جزء منهم فهذه الحيلة تكلف الدولة ما يساوي رواتب الموظفين الفعليين تقريبا، الدولة ليست بحاجة الى كل هذا الكم من الموظفين وبعض الشركات العامة تخسر منذ سنوات طويلة وأصبحت خارج الخدمة الفعلية نظرا لتهالك المعدات وقدمها (أكثر المصانع الحكومية حداثة يعود انشاؤه الى الثمانينيات) وارتفاع كلف الانتاج وتراجع مهارة العاملين، واي حديث عن حملات لتنشيط هذه الشركات هو مجرد احلام شعبوية أو حيل لسحب مزيد من الاموال لإنجاز عمليات إعادة تأهيل وهمية، وفي كل الاحول فإن الدول لم تعد تنتج الالبان والبطانيات والاحذية والسكائر...إلخ إلا في حالة البلدان المأزومة التي تتجه الى الكارثة، الدولة المعاصرة تحمي وتدعم الانتاج فقط، والدعم والحماية يكونان مشروطين بنسب تشغيل للمواطنين وعدم الاحتكار وضبط الاسعار، وإلا فالاستيراد ليس عارا.
دولة الرعاية الصريحة هي الاقرب الى تحقيق معظم النصوص الدستورية التي تتحدث عن ملكية الشعب العراقي لثروته وحقوق الافراد في العلاج والسكن والتعليم، والأهم انها تحقق المساواة والعدالة بين المواطنين سواء كانوا موظفين أو غير موظفين مادام مفهوم العمل في العراق قد تم مسخه ولم يعد مرتبطا بالانتاج بل بكونه مجرد قناة لمنح المال وغالبا بصيغة تخضع للمزايدة السياسية والتحشيد والابتزاز الانتخابيين، ولذلك علينا ألا نستبعد الربط بين تدني المشاركة في الانتخابات وإيقاف التعيينات.
الرعاية الصريحة تعني ان الدولة تتكفل بالعلاج والتعليم للمواطنين مباشرة في مؤسسات خاصة خاضعة للرقابة وملزمة بتعيين مواطنين عراقيين بنسب ما وضمانهم صحيا وتقاعديا بدل مواصلة الانفاق على مؤسسات صحية وتعليمية حكومية فاشلة ومترهلة وتلاحقها تهم الفساد غالبا، والرعاية الصريحة تعني تسليم المواطنين معاشات شهرية تحفظ كرامتهم في حال عدم حصولهم على فرص عمل في القطاع الخاص.
دولة الرعاية الصريحة ليست ابتكارا جديدة ولا بدعة مظللة بل حقيقة قائمة في اكثر من مكان لكنها تتعرض في العراق للتشويه السياسي لأن استمرار الانفاق على مؤسسات متهالكة هو مصدر لتمويل قوى سياسية مثلما تؤدي دعوات التوسع في التعيين غير المنتج اقتصاديا الى تحزيب المواطنين وابتزازهم.
دولة الرعاية الصريحة تفكك الحلقة الاقتصادية المفرغة التي تربط معيشة المواطن بالعطف السياسي عبر اتلاف الثروة العامة في مؤسسات غير منتجة من الاجدر التصرف بأصولها وخاصة الاراضي والمباني بطريقة أكثر جدوى.
الاصلاح الاقتصادي في العراق هو مفتاح وأساس كل إصلاح وهو ماتدركه قوى الحكم لكنها ترفضه بشدة، فالمسار الدارج للتعامل مع ثلث الأزمة (رواتب الموظفين) هو ما يغطي على الثلثين الكبيرين (تهالك الادارات ونهب موارد الثروة العامة).