السودان .. احتجاجات ومفاوضات ووثيقة لدولة مدنية

آراء 2019/08/06
...

عبد الحليم الرهيمي
كان الخبر الاول الذي تصدر نشرات الاخبار والتحليلات في معظم وسائل الاعلام والتواصل الاجتماعي العربية هو لما كان يجري في السودان منذ بدء حركة (احتجاجات الخبز) التي اندلعت في 17 كانون الاول من العام المنصرم بأطراف مدينة الخرطوم ثم تصاعدت لتشمل جميع الولايات السودانية تقريباً ، حتى تدخل الجيش لمساندة الحراك الشعبي المتصاعد وقيامه باعتقال (الرئيس) عمر البشير وخلعه في 11 نيسان الماضي ووضعه قيد الاعتقال تمهيداً لمحاكمته ، فدخل الحراك الشعبي بذلك مرحلة انعطاف جديدة في مسيرته الهادفة للتغيير السياسي بعد ان كانت حركة مطلبية تطالب الدولة بتوفير الخبز والمواد الغذائية الضرورية التي شح توفرها للمواطنين . 
وهكذا إذ تمكنت احتجاجات الحراك الشعبي من تحقيق احد اهدافها الاساسية والمهمة المتمثلة بإطاحة البشير وعدد من أعوانه اعلن قادة الحراك الشعبي الاساسيين من ( قوى الحرية والتغيير ) و ( تجمع المهنيين السودانيين) وبالتنسيق – ابتداءً – من المجلس العسكري الذي قام بدعم الحراك واطاحة البشير ، ان ما تحقق لم يكن نهاية المطاف انما فقط افتتح مرحلة جديدة من الصراع تتمثل برفع سقف المطالب وفي مقدمتها البدء بحملة لتصفية وعزل رموز نظام البشير في القوات المسلحة وادارات الدولة وقد بدأت فعلاً بعزل الجنرال عوض بن عوف الذي تصدر قيادة المجلس العسكري لأيام واستبداله هو وآخرين بضباط مؤيدين للحراك الشعبي . 
وفي مرحلة الانعطاف الجديدة بدأ الصراع او الخلاف بين المجلس العسكري والقوى المدنية (قوى الحرية والتغيير وتجمع المهنيين السودانيين) حول طبيعة قيادة المرحلة هل هي عسكرية ام مدنية ام مشتركة بينهما وبأي نسبة مشاركة لكل منهما وفي حين أظهر المجلس العسكري ، او بعض قياداته تشدداً بأن تكون الهيمنة للمجلس ، صعدت قيادات الحراك الشعبي من ضغوطها بالدعوة للاعتصام لأيام الذي قامت (قوة مجهولة) بفضه بالقوة حيث سقط نتيجة ذلك اكثر من 20 قتيلا ثم ارتفع العدد الى المائة حسب رأي قادة الحراك . وتعقد وتعثر الحوار والمفاوضات بين المجلس العسكري والقوى المدنية ، تدخلت قيادة الاتحاد الافريقي والقيادة الاثيوبية ، اضافة لوسطاء آخرين غير معلنين للتوفيق بين إصرار المجلس العسكري على صيغته للحكم لتكون الغلبة فيه اليهم وبين القوى المدنية التي تريد ادارة وحكم دولة مدنية يشارك فيها العسكريون ، وقدمت تصوراتها بوثائق توضح فيها وتؤسس لشكل وطبيعة الدولة المدنية التي تقطع مع حكم البشير ومع الانظمة الدكتاتورية التي سبقته . لقد جرت خلال الشهور الثلاثة التي أعقبت الاطاحة بالبشير ورموز نظامه مفاوضات شاقة وصعبة ومتعثرة أحياناً ، حيث بذل الوسطاء جهوداً للتوفيق بين المتفاوضين بالاقناع حيناً وممارسة الضغوط لتقديم تنازلات حيناً آخر من دون ان يوقف اي طرف تلك المفاوضات لقناعة الطرفين ان تصعيد المواجهة قد يؤدي الى الاحتراب واستخدام العنف مما يفسد ما حققته حركة الاحتجاج التي بدؤوا يطلقون عليها الثورة . لذلك بدا واضحاً ان التوافق والاتفاق بين المتفاوضين هو الخيار الوحيد ، وهكذا خرج (الدخان الابيض) من قاعة المفاوضات ليعلن الطرفان والوسطاء يوم 4 آب الجاري التوقيع بمؤتمر صفحي ، على الوثيقة الدستورية التي حددت بتفاصيل طبيعة وشكل الحكم المدني المطلوب ومؤسساته فضلاً في تحديد (روزنامة) لتواريخ تشكيل مجلس السيادة والوزراء ومواعيد بدء اجتماعاتهم .
ومثلما اتسمت لحظة التوقيع على الوثيقة الدستورية بالغبطة والفرح لبعض القادة والوسطاء عمت فرحة عارمة كذلك لدى الشعب السوداني . مع ذلك اعاد الشركاء المتفاوضون والمتفقون التأكيد على ان ما تم ليس نهاية المطاف فامامهم مهمة التفاوض مع بعض الفصائل السياسية والمسلحة المعترضة على الاتفاق او عدم مشاركتها بالحوار ، وهم يأملون النجاح بهذه المهمة .
ان تجربة السودانيين بدءاً من احتجاجات الحراك الشعبي ومروراً بـ (ماراثون) المفاوضات الشاقة ووصولاً الى اعلان الوثيقة الدستورية تمثل تجربة غنية تحمل دروساً تستحق التأمل والدراسة ، انها تجربة واعدة بوضع السودان على سكة تحقيق الدولة المدنية .. ولعل المفيد هنا الدعوة لمقاربتها مع تجربة التأسيس للدولة الجديدة بعد عام 2003 التي اتسمت بالتعثر والالتباس وعدم الوضوح بوثائقها وخاصة الدستور ، حيث تواجه التجربة الان من ثمار ذلك التعثر بصياغة الدستور!!