مهنة صبغ الجثث !

آراء 2019/08/25
...

عبدالزهرة محمد الهنداوي
المهن والحرف كثيرة ، اغلبها  متوارث ، عندما تنتقل المهنة من الاباء الى الابناء ، والأحفاد ، مثل الخياطة  والنجارة والصباغة، لدرجة ، ان الأسر  التي تمتهن مثل هذه المهن، تأخذ كناها من المهنة التي تزاولها فيقال ، بيت النجار والخياط والدباغ ، والصباغ .. إلخ .. والكثير من هذه المهن ، تلاشت ، وبعضها ، ربما ، آيلة للتلاشي ، أما لان الابناء لم يحافظوا على مهنة آبائهم ، او ان تطور العصر ، اسهم في ابتكار ، آليات وتقنيات حديثة ، معها ، لم يعد بإمكان اصحاب هذه المهن المحافظة على بقائها .. ولكن في المقابل فإن، ثمة مهن، لايمكن ان تنقرض، لانها ترتبط بوجود الإنسان، ومنها على سبيل المثال ، مهنة دفن الموتى التي يكنى صاحبها بـ”الدفّان” ، فهذه المهنة ، لن تنقرض ، فالبشر يتكاثرون ، ومن ثم يموتون  ، وهنا لابد من وجود مَن يقوم بمهمة دفن الذين يموتون ، وليس بالضرورة ان تنحصر قضية الدفن بأولئك الذين توارثوا المهنة ابا عن جد! ، فقد تتولى العملية ، جهات اخرى قد تكون مؤسسات حكومية (الدوائر البلدية)، او منظمات إنسانية  او غيرها، هذا  إذا كان المتوفون مجهولي الهوية، او ليس لديهم من الاقارب من يتولى دفنهم .
ويبدو ان الاطمئنان على بقاء هذه المهنة ، جعل البعض يفكر باستنباط مهن فرعية ، ترتبط بمهنة الدفن، وبما اننا  ذكرنا ، مهنة الصباغة ، - مع وافر التقدير لمن يمتهن هذه المهنة-  ، فأن “البعض” فكر ودبر ، مهنة جديدة ، لم تكن معروفة لدينا ، تلك هي مهنة “صبغ الجثث” !  وقد تستغربون مثل هذه المعلومة ، المثيرة ، فمَن يقوم بمثل هذه المهمة؟! وهل ثمة ألوان محددة او أصباغ معينة يتم استعمالها لصبغ الجثث ؟  ثم ، لماذا يصبغون الجثث 
أصلا ؟!
القضية باختصار ترتبط بواقعنا السياسي، اذ يحاول بعض الساسة ، الرقص على  جثث الموتى ، بعد صبغها بلون معين ، وهذه القضية تشبه الى حد كبير ، عملية وسم المواشي من قبل أصحابها بلون محدد لكي لاتختلط مع مواشي الآخرين !! وهنا بيت القصيد ، فقد  تابعنا جميعا ، قضية الجثث المجهولة التي أعلنت محافظة بابل عن دفنها ، موضحة ان الجثث كانت محفوظة لدى مشافي المحافظة ، تعود لفترات سابقة وتوفي أصحابها بحوادث وظروف مختلفة ومن مناطق المحافظة كافة ، ولكن المشكلة، ان بعض الساسة ، الذين لاهم لهم سوى اثارة المشاكل واختلاق الأزمات ، بدعوى الدفاع عن حقوق هذا المكون او ذاك ، وقبل ان يتم الإعلان عن تفاصيل وملابسات وفاة هؤلاء الأشخاص ، فقد ملأوا الدنيا ضجيجا وعويلا ، ولكن مالبثوا ان التزموا الصمت المطبق ، عندما فاجأهم رئيس مجلس النواب محمد الحلبوسي ، ساحبا  البساط من تحت ارجلهم ، ليجدوا أنفسهم حفاة ، وهم يدوسون على النار التي اشعلوها ، مبادرة  الحلبوسي بدعوة وزير الداخلية ومحافظ بابل والقادة المعنيين ، كشفت الحقيقة ، واماطت اللثام عن ملابسات وتداعيات القضية بجميع تفاصيلها ، الأمر الذي اسهم في إطفاء فتنة ، كادت ان تنطلق نيرانها في الجسد العراقي المثخن بالجراحات ، وفي الوقت الذي نبارك مبادرة رئيس السلطة التشريعية في البلاد ، فإن لنا بعض الملاحظات المتصلة باداء الحكومة المحلية في بابل ، ومن هذه الملاحظات ، ان التأخر في اعلان التفاصيل ، ترك فراغا ، استغله، ممتهنو صبغ الجثث ، وراحوا يمارسون مهنتهم بكل سهولة ويسر ، حتى جاءت مبادرة الحلبوسي ، أما الملاحظة الثانية فانها ترتبط ، بتأخر دفن الجثث لعدة سنوات ، وقد بررت المحافظة ذلك بعدم وجود تخصيصات مالية ، ماجعلها تستعين بإحدى المنظمات الإنسانية ، لإتمام مهمة الدفن ! وهذا التبرير  غير مقبول اطلاقا ، فليس من المعقول ان تعجز محافظة عن دفن 31 جثة ،  فكم كان يكلفها ذلك ؟!، وكان بامكانها  ان تقترض المبلغ  من احدى جارتها المحافظات الأخرى ، او من احدى العتبتين  الحسينية او العباسية اللتين  لاتبعدان عن بابل سوى 40 كيلو متر فقط .. كما انني لا اعتقد ان الحكومة الاتحادية ، ستشح بمبلغ بسيط ،لو كانت حكومة بابل  طلبت ذلك من مجلس الوزراء ، فهناك مبالغ مخصصة للطوارئ ، والقضايا الإنسانية ، فقد كان حري بالحكومة المحلية ان تسلك كل الطرق المتاحة ، وهي كثيرة  لتدبير المبالغ المالية المطلوبة لدفن هذه الجثث ، بدلا من إبقائها طيلة هذه السنين
 (2016  - 2019) ، وهذا التأخير المزدوج ، (تأخير الدفن ، وتأخير الإعلان عن التفاصيل) أوجد بيئة خصبة لأصحاب مهنة “صبغ الجثث” وليد خالد الزيدي.. ولذلك أقول ، ان ماحدث في بابل ، ينبغي ان يكون درسا واضحاً للآخرين ، لكي لا يسمحوا بتكراره في أي بقعة اخرى من بقاع الوطن ، لكي لانعطي فرصة لصباغي الجثث بممارسة  مهنتهم ، فهذه المهنة، يجب ان تزول نهائيا من قاموس حياة 
العراقيين .