الواهميةُ السياسيةُ

آراء 2019/08/27
...

علي حسن الفواز
 
إذا اردنا اقتراح مفهومٍ مضاد لمفهوم الواقعية السياسية، في غموضها والتباساتها، وفي انتهازيتها احيانا، فليس أمامنا سوى مفهوم (الواهمية السياسية) بوصفه ضدا مفهوميا مفارقا وساخرا وأكثر تعبيرا عن الحمولة التلفيقية التي قد يحملها كثير من تطبيقات الواقعية السياسية، التي تحولت- في سياقات متعددة- الى خطاب تصالحي، والى نوع من التواطؤ مع واقع خاضع الى مركزيات ومهيمنات ضاغطة، أو مع قوى أكثر غموضا في فرض تصوراتها ومصالحها.
ما يجري في مشهدنا السياسي العربي والعراقي ليس بعيدا عن هذا الاضطراب المفاهيمي، في طبيعته الاجرائية، وفي طبيعة القوى التي تروّج له، وتفرضه كأمرٍ واقع، وكنأيٍ بالنفس عن تعقيدات هذا المشهد المضطرب، والمفتوح على احتمالات واسعة، بما فيها احتمال الحرب، أو السلام المائع والمخذول.
من أكثر تجليات(الواهمية السياسية) هي مما يّسمّى بـ(صفقة القرن) التي وضعت الولايات المتحدة لها خططا وبرامج واموالا وسياسات ومصالح، والغاية الجوهرية منها هو اقناع العرب والفسلطينيين بـ(خدعة التاريخ) وبطلان نظرية (الارض المباركة) وحق العودة اليها، وعليهم أن يكونوا(واقعيين جدا) لكي يتخلصوا من عبء التاريخ، ومن الحروب والمسيرات ومن الطرق التي لا تؤدي الّا الى الموت بالنار الاسرائيلية، وعلى الحكّام العرب أن يساعدوا الولايات المتحدة لتحقيق هذا الحلم(الجيوسياسي) وأن يقتنعوا بـ(يهودية الدولة الاسرائيلية)، حدّ أن الرئيس الامريكي ترامب اسبغ عليها طابعا حميما وعائليا، حين أوكل مهمة ادارة هذه الصفقة الى صهره كوشنير ليكون الراعي والقريب والممول للمشاركين فيها.
 
نحن والواهمية السياسية
المشهد السياسي والأمني العراقي له أوهامه السياسية ايضا، وله انتهازيوه الذين يمارسون وظائف اشهارهم لهذه الواهمية، وعبر سياسات لا علاقة لها بمسؤوليات تأصيل مشروع الدولة العراقية، ولا بحمايتها التي تحتاج الى مستويات عالية من الواقعية، وبقدرات فاعلة على مواجهة تحديات المرحلة، وابرزها طبعا التحديات الامنية والاقتصادية، وأحسب أن عمليات قصف مخازن اسلحة الحشد الشعبي، وارتباط هذه العمليات باعترافات اسرائيلية واضحة، يكشف عن بروز مشكلات معقدة لها علاقة بسيادة الدولة، وبضرورة حمايتها امنيا ومعلوماتيا، وبحماية المؤسسات الامنية التي يمثل الحشد الشعبي واحدا منها.
قرار السيد رئيس مجلس الوزراء بمنع تحليق الطائرات- ومن اي جهة كانت- في الاجواء العراقية، إلا وفق سياقات وموافقات خاصة من رئاسة الوزراء، قد يقلل من هذه الخروقات، ومن تجاوزات الطيران مجهول المصدر، لكن ذلك رهين-ايضا- بجملة من الاجراءات التكميلية، التي تدخل في سياق وضع خطط عسكرية وفنية ورقابية لحماية الاجواء العراقية، وبإدارة عراقية، وليس عبر اللجوء الى الجهات الدولية المعروفة بمواقفها وسياساتها، فضلا عن وضع(المجتمع الدولي) والمنظمات الدولية أمام حقائق ومعطيات هذه الخروقات، وطبيعة خطورتها، التي تؤشر الى مدى الاستهانة بسيادة الدول وبحقوقها.
الركون الى الواقعية، أو الواهمية السياسية كما تفترض القوى الكبرى، أو القوى التي تحاول فرض الامر الواقع، هي دعوة لمزيد من الاستسلام والضعف، والقبول بتقسيم العالم بين دول قوية حاكمة، ودول ضعيفة لا حق لها بفرض تصوراتها على الاقوياء الواقعيين جدا، وأن ما يُطبّق من مفهوم الواقعية السياسية، هو الرضوخ والامتثال، لأنّ الندية والتماثل غير مقبولين في هذه الحسابات، ولا حتى في الدفاع عن الخصوصيات الوطنية، وحق الدول في ممارسة الاستقلالية السياسية في الرأي وفي المواقف وفي المصالح.
 
الاقتصاد والواهمية السياسية
الاقتصاد هو الوجه الآخر للسياسة، وكلما كانت السياسة فاعلة ومؤثرة، فإن الاقتصاد وبرامجه سيكونان في وضع أفضل لخدمة المصالح، ولتعزيز مسارات الاستقلال والسيادة، ولحماية الارض والمنتوج والهوية، والحق في اختيار البرامج والمشاريع، وفي عقد الاتفاقيات الاقتصادية مع هذه الدولة أو تلك، لكن هذا التصور النظري، وهو تصور حقوقي ايضا، كثيرا ما يصطدم بجملة من الاجراءات المتعسفة، التي تفرضها دول معينة، أو قوى معينة، وتحت يافطة الامتثال الى الواقعية، تجنبا للتورط بمشكلات وصراعات مع عالم افتراسي تحكمة دول وسياسات يؤطّرها العنف والهيمنة والمصالح الكبرى.
قد تكون هذه الواقعية مطلوبة احيانا في حساب العلاقات والمصالح، لكن تحولها الى ممارسة دائمة، هو مايجعلها تدخل في اطار(الواهمية) التي تعني مزيدا من التنازلات والخذلانات، وصولا الى التورط في سياسات فاشلة، وفي تعويم الفرص الحقيقية لبناء التجربة الوطنية، ومراعاة خصوصياتها ومصالحها، ومصالح الناس وحقوقهم، لاسيما أن تجربة(الدولة الوطنية) في العراق لها سماتها التاريخية، ولها تجربتها الرائدة في المنطقة وفي العالم، وأنّ ماعاشه العراق خلال سنوات الاستبداد وتغوّل(هوية الدولة) كان اقرب الى الواهمية، وليس الى الواقعية، إذ حوّل الاستبداد العراق الى دولة للعنف الجمعي، ولشن الحروب على جيرانه، ولاستبداد شعبه وقهرهم في حروب ومهاجر وقتل جماعي، وتحت وهم المغالاة في صناعة تلك الهوية المستبدة.إذ اعادة النظر بالواقع السياسي، والعمل على معالجة ثغرات هذا الواقع ليست مستحيلة، لكنها تتطلب اجراءات وممارسات وفاعليات تؤمن اولا بمشروعية وحقوقية الدولة الوطنية، وتأمين كل ما من شأنه أن يعزز الواقعية العقلانية لتأصيل تلك الدولة، ومن دون مغالاة، ومن دون توهيم وتهوين، ومن دون ضعف، فما جرى خلال السنوات الماضية يكشف عن حاجتنا الواقعية والمسؤولة لمشروع الدولة الوطنية.