مجتمع الأرصفة!

اسرة ومجتمع 2019/08/31
...

عالية طالب
ظواهر سلبيَّة هي حصيلة ما نراه في أرصفتنا على مدار اليوم: كلما رأيتها وهي تقف بسنواتها التي تجاوزت الستين، ونظراتها التائهة، وفستانها القديم، وشعرها المكور بإهمال داخل إيشارب بألوانٍ باهتة، كلما تقافزت الى رأسي عديدُ أسئلة تأبى أنْ تنغلق في عقلي، لماذا تمدُّ يدها لتتسول بصمتٍ يكاد يحمل كل صخب العالم؟، ولماذا تتكور أمام نوافذ سيارات المارة وكأنها تبحثُ عن سقفٍ ما؟، وماذا تفعل بكل هذه النقود التي أراها منتفخة في جيبها الطويل في زاوية ذلك الفستان بألوانه الغريبة؟.
في مجتمعنا نستطيع أنْ نعرف مرجعية الشخصية من ملابسها، هيئتها، شكلها، لهجتها، وعبر هذه المشتركات المتوارثة فينا كنت أعرف أنَّ هذه السيدة - مسيحيَّة!!
وكلما رأيت أخرى وهي تتجول بعباءتها التي غادرها سواد لونها، تمد يدها المطرزة بالوشم المخضر، وخطواتها المتهالكة ترتكز على عصا شجرة عجفاء، فوطتها السوداء تتراقص فوقها مسبحة طويلة، ولا يكف صوتها عن تعداد بعض أسماء الأئمة الأطهار وهي تطلب إنزال حفظهم لمن يعطيها بما يجود به، كلما تساءلت ترى ماذا ستفعل بالنقود التي لا تكف عن جمعها يومياً لساعات طوال.
وكلما رأيته بغترته البيضاء ومشيته البطيئة وصوته الذي يذكرني بمن يقرؤون التواشيح الدينية والمنقبة النبويَّة، وهو يمد يده ويعرض بضاعته المطبوعة بآيات قرآنية وهو يلهج بالدعاء بأنْ يحفظ الله كل من يساعد المحتاج، كلما تساءلت كم يملك هذا الرجل من خزين مطبعي لم ينته منذ أكثر من عام ولا زالت الآيات القرآنية تملأ سيارات من يمرون بتتابع لا يعرف التوقف!!
كلما رأيت امرأة الرصيف ورجل الرصيف كلما تذكرت وزارة ووزير النفط ووزارة ووزير الرعاية الاجتماعية: الأول لا وجه له سؤال: أين حصة هؤلاء في خيرات بلدهم؟
والثاني لأساله: ألم تلتق يوماً بهم؟
أما السؤال اليتيم الذي يحيرني: إنهم يمثلون طيفنا العراقي بسنته وشيعته ومسلميه ومسيحييه، تُرى أين رجال الدين منهم؟ وأين الخُمسُ والزكاة ورعاية الكنيسة لهم إنْ كانوا محتاجين؟ أم إنْ لم يكونوا كذلك فيا لمنظرهم الخادش لبلد يمتلك ثاني احتياطي بترول في العالم وما زال لا يعرف كيف يداري خيبات أرصفته، ويحفظ ماء وجه مجتمعه، ويصون كرامة من يحمل جنسية العراق؟
إيقاف هذه المناظر الخادشة للدين والحياء والمجتمع مسؤولية حكوميَّة بالدرجة الأساس، ومسؤوليَّة أخلاقيَّة وتكافليَّة لمجتمع ضاعت فيه منظومات نبيلة كثيرة، لا يمكن لبلد مثل العراق أنْ تترك أجياله على قارعة الأرصفة لتتسول قوت يوم أسرة تنتمي إليها، لأننا بالسكوت عنهم نكون قد أسهمنا في تدمير مستقبل بلد ينتظر ديمومته من أجياله المتعاقبة.
العاطلون عن العمل وذوو الدخول الواطئة شريحة متواجدة في كل دول العالم، لكنهم لا يفترشون أرصفة الشحاذة ولا ينظم عملهم “وكيل عمل” ولا يشرف على توزيعهم “متعهد” ولا تصمت تلك الدول عن وجودهم السلبي ليشكلوا ظاهرة مخزية تحمل المؤسسة الرسميَّة مسؤولية انتشارها أولاً والمجتمع المتغافل عن التكافل ثانياً.