ساطع راجي
يتكرر الخبر يوميا، لكن يتم التعامل معه أمنيا بشكل يومي أيضا من دون أي مشروع شعبي أو رسمي لإنهائه، هذا حال النزاعات العشائرية التي توردها وسائل الإعلام مبتورة، فالنزاع يبقى من دون تسمية لطرفيه في الخبر ولا ذكر لسببه غالبا، ويكفي هذا الخلل الاعلامي لنعرف مدى سطوة العشيرة فحتى مدونو وسائل التواصل لا يجرؤون غالبا على ذكر أسماء العشائر المتنازعة ولا موضوع نزاعها رغم أنهم (المدونون) لا يترددون عن توجيه الانتقاد لكل الشخصيات السياسية والدينية والثقافية والسخرية منها بما فيها الجماعات المسلحة ومثلهم يفعل مقدمو البرامج السياسية الجادة والساخرة، وهذا يعني أن العشيرة هي القوة الأكثر قسوة في المجتمع والأكثر تجاهلا للقانون والأشد خطرا على مستقبل البلاد.
دافعت قوى سياسية عديدة عن تضخيم دور العشيرة وتمييز شيوخها في التعامل وفتح الباب أمامهم للتسلح بذريعة دورهم في إسناد الجهات الرسمية في حفظ الأمن، لكنهم صاروا الجهة الأكثر تهديدا للأمن في العراق كما أنهم يهددون فرص التطور الاقتصادي ويسهمون في انتشار الجريمة المنظمة والاعتداء على المال العام والتطاول على هيبة الدولة والاساءة لسيادتها بشكل يومي، وإذا كانت العشائر عنصرا في التصدي لانهيارات أمنية فهي نفسها كانت غالبا شريكا وفاعلا في حدوث تلك الانهيارات.
في كل حادثة نزاع عشائري يختفي الشيوخ والوجهاء عن وسائل الاعلام ولا يقدمون للرأي العام تفسيرا أو معلومات عن النزاعات التي تجري في مناطق يدعون دائما أنهم قادتها، لكنهم في لحظة المكاسب كلهم يقفزون للمطالبة بحقوقهم مدعين انهم “صمام أمان” وسند للدولة في “حفظ الأمن”، من دون أن يتحملوا مسؤولية عما حدث والأغرب أنهم يتباهون بجلسات الصلح غير القانونية التي يعقدونها وكأنهم متفضلون على المجتمع الذي أهدروا كرامته وتسببوا بتخلفه وفساده. لقد صارت العشائر ندا للدولة في أكثر من حالة واعتدت على الاجهزة الامنية وغطت على ممارسات بشعة بحق من يعتبرونهم ضعفاء أو بلا ظهر عشائري حتى أجبروا جميع المواطنين على التنصل من عقلانيتهم ومدنيتهم ليعودوا الى أنساب قديمة واحيانا مختلقة خوفا من جاهلية جديدة يضرب الناس فيها رقاب بعضهم بعضا ويعتدون على الحرمات. ضعف انتقاد الدور التخريبي للعشيرة يعود في جزء منه الى الخوف من العشائر وفي جزء آخر الى الشك في قدرة مؤسسات الدولة على بسط سلطة القانون لكن الجزء المظلم يعود الى خضوع ذهني للعشيرة حتى عند النخب الثقافية التي تدعي التنوير والتمدن، نخب تقف إجلالا وعرفانا لشيوخ تعرف انهم يدعمون مهربي المخدرات ويسهمون في الاستيلاء على المنافذ الحدودية ويفرضون احكاما متخلفة على مجتمعهم ويتواطؤون مع ساسة فاسدين، شيوخ لا يرحمون ضعيف قومهم ولا يهتمون بحياته إلا إذا صار موضوعا “لفصل عشائري” وإلا أليس للمرضى الفقراء عشائر تعينهم على العلاج؟!، أليس للنساء الباكيات في الفضائيات عشائر تنجدهن؟! أليست الاعراف والتقاليد العشائرية ترفض الاعمال الرذيلة التي يتزايد أعداد مرتكبيها وهم يفخرون بألقابهم العشائرية وبصورهم الى جوار شيوخهم؟!!. كانت سلبيات العشائرية محصورة فقط في المناطق النائية، لكنها ومنذ العام 1991 فرضت نفسها على مراكز المدن وعلى العاصمة نفسها، وصارت سلطتها هي الاعلى وتكاد بعض العشائر أن تتحول بالكامل من كيان اجتماعي الى فصيل مسلح أو عصابة إجرامية بحسب مقتضيات المصلحة، وسط استسلام شعبي ورسمي يجعل بلادنا العريقة موضع سخرية وتندر وخوف للأسف.