السياسة ُبين فلسفةِ الدولة وعنفِ الجماعة

آراء 2019/09/03
...

علي حسن الفواز
 
السياسة همٌ عام، ومجال للتعرّف على مصائر الآخرين وقيادتهم احيانا، والتعبير عن مصالحهم وعن افكارهم، وهذا ما يُبرر ارتباط السياسة بالايديولجيا، وبتقانات السيطرة والرقابة، والانخراط في ممارسات وفاعليات تقوم على اساس تحليل الظواهر والازمات والصراعات، وحتى لا تكتفي السياسية بكونها مجرد تعبير عمومي عن مصالح وتوجهات ما، فإن طابعها المؤسسي يفترض وجود آليات تُنظّم عملها وفاعليات حاكمة لادارتها، ولتأطير الخطط والبرامج التي تدعم صناعة الثقافة والتعليم والتنمية وغيرها من الممارسات التي تدخل في سياق تأهيل الاداء السياسي، وفي سياق تفعيل ماهو نقدي وعقلاني، وكل ما من شأنه أن يعزز فهم السياسة وتداولها، وفي تحليل خطابها ومعرفة 
اهدافها.
الاهتمام بالسياسة كشأنٍ عام يعني الاهتمام بكلِّ ما يجعل هذه السياسة مقبولة، وفاعلة ومؤثرة، وذات مردود ايجابي في سياق النظر الى مصالح الناس، أو النظر الى مصالح وحاجات المؤسسة التي تقف وراءها، ووراء صياغة العقد السياسي، إذ تبدو السياسة- هنا- وكأنها- جوهر الحكم الذي يملك القدرة على وضع خطوط عامة لادارة الازمات، بما فيها أزمة بناء الدولة، ومواجهة تحدياتها الوطنية والتنموية 
والبيئية.
 
فلسفة السياسة
يضع سلافوي جيجك نظره النقدي للسياسة في ضوء حاجة الافكار التي تتمثلها للنقد، فلا سياسة حقيقية من دون أفكار، ومن دون أطر ايديولوجية، لها وظائفها في التطبيقية، وفي التعبير عن طبيعة العلاقات الاجتماعية السياسية، مثلما هي وظيفتها في نقد الاستبداد والهيمنة، التي فرضت شروطها للاسف على الواقع العربي منذ نهاية الخمسينات، والى يومنا هذا، والسبب في ذلك هو سوء انتاج وتداول الفعل السياسي النقدي والعقلاني، وحتى الايديولوجيا لم تنفصل عن ذاكرة الاستبداد، إذ تحولت الى مهيمنات شوفينية وعصابية، والى طفيلية يسارية، فضلا عن هيمنة النزعة الانقلابية الدموية، التي أسهمت في رثاثة الفعل السياسي، وفي ضعف صناعة العقد السياسي، وكذلك في صناعة القائد السياسي، وفي حماية الانثربولوجيا السياسية لمكونات الاجتماع 
الوطني.
إن غياب فلسفة الدولة يعني بالاساس غياب فلسفة السياسة ذاتها، وهذا الغياب الفلسفي يعكس ضعف القدرة على تحرير(النظرية السياسية) من مهيمنات عُصاب الايديولوجيا بوصفها(وعيا زائفا) كما يقول ماركس، ومن عُصاب النزعة الانقلابية العسكرية، وباتجاه أن تكون جزءا من (المجال العمومي) للتواصل، وفي ادامة فاعلية الدولة ومؤسساتها، و(لكي تسهم في قراءة معضلات حياتنا اليومية، وفي المساعدة على إتقان هذه المهمة عبر تناغمُ القدرات الفطرية الفائقة مع المهارات في توظيف الفلسفة وعلم النفس لبناء تصور مغاير للأشياء، وصدم كل ما هو مألوف في الثقافة السائدة) كما قال سلافوي 
جيجك.
ضعف الاداء السياسي يؤدي الى ضعف الممارسة الاجتماعية، ونشوء التيارات الاصولية والطفيلية، والعجز عن اداء الوظائف الوطنية، والسبب هو هيمنة الافكار الطوباوية، وضعف البنى المؤسسة، وهشاشها قواها الفاعلة، لاسيما الطبقة الوسطى، والقوى المتعلمة، وتراكم الانهيارات السياسية والاجتماعية والثقافية، جراء كثرة الانقلابات العسكرية الدامية، وصعود ظاهرة(الجنرال) القائد والمُستبد، وكذلك الحروب الاقليمية الطويلة، وتضخم ظواهر الصراع الاهلي، وتراكم ظواهر الفقر والعجز الاقتصادي
، والفشل السياسي، فضلا عن ظاهرة الاحتلال الامريكي للدولة والمجتمع، التي خلقت بالجوار انفجارات واقعية وانفجارات طوباوية ورمزية أشد رعبا وصخبا.
 
السياسة والعنف
العنف والحرب هما وجهان لاعقلانيان للسياسة، وكلما كانت إدارة السياسة سيئة، كان العنف والحرب أكثر سوءا، وأكثر تمثّلا للغرائز العنفية، وللصراعات التي تُديرها الجماعات اللادولتية، وفي هذا السياق ندرك خطورة التعالق المفاهيمي بين السياسة والدولة، وبين الايديولوجيا والعقل، لاسيما أن الايديولوجيا الحاكمة، تشبه الى حدّ كبير(صندوق القمامة) كما سمّاها جيجك،التي تدفع نحو تسميم الافكار، وفرض اشكال اكثر راديكالية وتطرف على الاجتماع السياسي 
والثقافي.
إن تراكم الفشل، وتضخم ظاهرة الفساد منذ ستة عشر عاما يكشف عن هوية المشكلة السياسية، إذ فرضية الاستبداد القديم تستدعي بالمقابل نظاما ديمقراطيا يتجاوز عقدة الماضي من جانب، وعقدة المركزية السياسية والطائفية والعُصابية، لكن ما جرى، وبسبب تعقيدات الفشل السياسي، أدّى الى ظهور عنف لاعلاقة له بمفهوم الدولة، بل بهوية الجماعة، التي لا تملك بالأساس أي برنامج حقيقي للدولة، ولتداولية شروطها وسياقات 
عملها.
هذا العنف تلبّس بقناع سياسي، وبشعارات فائقة الخطورة حول الوطن والهوية والديمقراطية والتنوع، حدّ أنّ(الزيف الايديولوجي) تحوّل الى لعبة ماكرة في تزييف التاريخ، وفي فرض سرديات ترويها جماعات طائفية وجماعات قومية، والغرض النسقي المُضمر منها هو الخطاب السياسي، بوصفها الخطاب الذي يستدعي وجوده الاجتماع المهيمن، أو الجماعات التي تشكّل ظاهرة(الدولة السياسية)
 العراقية.
إن تبرير العنف السياسي هو تعويم للمشكلات العميقة للدولة، ولافقاد المكونات العراقية فرصا واقعية لصنع(مجالها العمومي) أو للقبول بوجود(عقد اجتماعي- سياسي) يسهم في ضبط ايقاع العنف والسيطرة عليه، وتحويله الى عنف مشروع كما يسميه ماكس فيبر
، الذي تُديره الدولة الوطنية، بوصفها القوة الوحيدة التي تملك حق التصرف به ضد اعدائها من الارهابيين ومن الاعداء الخارجيين، فضلا عن اهميته في الترويج لـ(الصيانة الوطنية) في حماية مشروع (الدولة الجديدة) وفي حفظ تنوع اجتماعها السياسي والديموغرافي والطائفي، بعيدا عن التفكير بطوباوية المنتصر في معركة(الفرقة الناجية) او صورة الأمّة التي تفرض شروطها على 
التاريخ.