عدنان أبوزيد
يحتفي الفرد في الأمم الناجحة بالمشاريع، لا الأحزاب أو الأشخاص، ويركّز على الفائدة المتوخاة، والنتائج العملية للنظريات والشعارات، الأمر الذي يسهّل كشف الادعاءات، وتضليل البرامج الانتخابية، والتنظيرات في الكتب والمنشورات، وفيما اذا هي ناجعة، اذا ما وُضعت على المحك.
على النقيض من ذلك، يوجّه الفرد في الأمم المتخلفة، اهتمامه الى الشخصية السياسية او الاجتماعية او الفكرية، لا على انتاجها أو ابداعها او نتائج فعالياتها، لأنه في حالة ذهول من الهالة التي ترسمها الألقاب، والصفات، والمنصات التي تخص هذا الحزب او ذاك المسؤول، أو الكاتب.
ما يزيد من الانزلاق الى التقييم غير الموضوعي، ان الكثير من الناس تنخدع بالنجومية التي تصنعها الفضائيات ووسائل الاعلام، فعلى رغم ضحالة الطرح، وقصور المستوى الفكري، والمهني، وانعدام الانتاج الإيجابي، الا ان وميض الأسماء، يضفي على الإنتاج المتواضع، هالة من التقديس، ليصبح كل ما تنتجه مرحبا به، وكل ما تصرّح به، هو عين الصواب، لدى البعض.
المشكلة، ان تقديس الشخوص، لا العقول، ومستويات الأداء وإنتاج الفرد، يولّد مجتمعا ينخدع بالكلام والافتراء، عن الإنجاز والفعل، فكثر الكلام وقلّ الخلق، وارتفع صوت الطبالين وانحسر صوت العمل، وصعد الى الواجهة، الانتهازيون بدل أصحاب الايمان، وتفرق الناس عن المصداقية، الى اللهاث وراء الاختلاق.
كثرت في المجتمعات المتخلفة تماثيل فكرية وسياسية واجتماعية، وهي وإنْ لم تنتج ولم تسجل لنفسها إنجازا، الا انها هي المستحوذة على عقول الناس، لان الاعلام، والدعاية، وغياب الوعي الجمعي، تسوّقها على انها صاحبة الريادة والقدرة على تحقيق الأحلام.
تبدو الحالة مرئية بسهولة في الحياة الافتراضية والواقعية على حد سواء، ذلك ان نجوم الحديث والفهلوة الكلامية، باتوا سادة المنبر، اما أصحاب الفكر، والمبدعون الحقيقيون، والمهنيون والأكاديميون، فلا يُسمع لهم رأي، من قبل أخلاط كثيرة من جمهور يسحبه المنطق المنمّق وبهرجة الأسماء، الى حيث لا يدري.
لولا غلبة منطق الإنجاز، لا الادعاء، لذهب الكثير من الإنجاز العالمي في مختلف المجالات، في مهب ريح الكذب والزعم، ولكانت رواية «ذهب مع الريح» للكاتبة الأمريكية المغمورة مارجريت ميتشيل، نسيا منسيا، لولا سيادة الوعي بين الناس وادراكهم لقيمة المنجز، لا الاسم الذي لم يسمع به أحد، حين صدرت الرواية.
واتْحفت كاتبة لم يكن يعرفها أحد هي إيميلي برونتي، كلاسيكيات الأدب الإنجليزي، بروايتها الفذة «مرتفعات ويذرنج»، متفوقة على نجومية الأسماء اللامعة، لان الجمهور يلهث وراء الابداع، لا المزاعم.
وفي آب 2019، تغلب ستيفن باركلي، السياسي البريطاني، النكرة في عالم السياسة، على منافسيه المشهورين والمدعومين، ليكون الوزير في الحكومة البريطانية الذي ينظم عملية الخروج من الاتحاد الأوروبي (بريكست).
كما تجاوز رئيس الحكومة الفرنسية الشاب، مانويل ماكرون، وهو أصغر رئيس في تاريخ البلاد منذ إنشاء الجمهورية، عتاة السياسيين المسيطرين على الإعلام والسياسة لان الفرنسيين كشفوا الكثير من البهتان الذي يدعونه.
وفي تركيا، تمكّن أكرم إمام أوغلو المتواضع في تاريخه السياسي، من انتزاع رئاسة بلدية إسطنبول ملحقا الخسارة بمرشح، سُلّطت الأضواء عليه، واحتفى به الاعلام لانه مقرب من الرئيس رجب طيب أردوغان في الانتخابات البلدية الأخيرة.
تنسحب ظاهرة التقييم وتحديد المسافات الفكرية حتى في الحوارات، فلا تخضع الفكرة الى مسطرة التقدير، قدر الشخص نفسه، فينعكس معتقده واتجاهه السياسي ومذهبه على أولئك الذين يتخذون المسافة منه، فيسبقون تنظيراته والاستماع اليه بموقف عدائي او ولائي مسبق، حسب قرب الشخص ومذهبه وانتمائه منهم، لا مشروعه او فكرته.
لابد من انْ تكون «الحكمة ضالة المؤمن»، وان تكون هي الوسيلة والهدف، لكي نبتعد عن الشخصنة في الابداع والإنتاج والصناعة، ونتيح لكل الناس، فرصة الابتكار، وصناعة القرار، وبناء المستقبل.