د. قيس العزاوي
يبقى السودان على عظم مشاكله الاقتصادية مختبراً للافكار السياسية الغنية الكبرى وتطبيقاتها على ارض الواقع .. لم يوفق استاذ القانون الدستوري في جامعة هارفرد أوزان فارول عندما عدد عام 2012 ثلاثة انقلابات عسكرية سماها ديمقراطية وهي الانقلاب العسكري التركي عام 1960 لانه سلم بعد عام السلطة لمن اختاره الشعب والانقلاب العسكري الاسباني عام 1974 لانه اطاح بنظام الدكتاتور فرانكو وسلم السلطة للمدنيين والانقلاب العسكري المصري عام 2011 الذي اسقط سلطة حسني مبارك واقام انتخابات.. نقول :لم يوفق فارول لانه نسي او تناسى ما حدث في السودان المختبر العربي للديمقراطية .
لقد اهمل فارول احد اشهر الانقلابات العسكرية الديمقراطية التي عرفتها الساحة الدولية وهو انقلاب المشير عبد الرحمن سوار الذهب في نيسان 1985 الذي مثل بادرة هي الاولى عربياً عندما سلم سوار الذهب مقاليد السلطة لحكومة منتخبة برئاسة الصادق المهدي . واذكر ان المنظمة العربية لحقوق الانسان التي رأت النور عام 1983 في ليماسول بقبرص لم توفق في عقد مؤتمرها السنوي في اي دولة عربية بعد ان رفضت كل الدول العربية استقبال اجتماع مؤسسيها، الا السودان الذي وافق واستقبل ورحب رئيس الوزراء الصادق المهدي بها واعلن من المنصة ان سوار الذهب نموذج العسكري الديمقراطي يجلس بين صفوفكم مدنياً .
أصالة الفكر السياسي السوداني لا غبار عليها، فعلى العكس مما زعمه استاذ الفلسفة في جامعة الخرطوم صبري خليل حين درس إشكاليات الفكر السياسي السوداني وميز بين مستوى الفلسفة السياسية، ومستوى المذاهب السياسية، ومستوى العلوم السياسية، ومستوى النظم السياسية، ولكنه ومن المؤسف لم يذكر سوى السلبيات فقط، وأهمل ان هذا الفكر السوداني كان وما زال نموذجاً يحتذى للفكر السياسي العربي. ولكن “جارية الحي لا تطرب” فإن بعض السودانيين يستهين ويقلل من اهمية هذا الفكر من منطلق التواضع ربما او الجلد الذاتي في الغالب .
لقد كان الفكر السياسي السوداني سباقا في تحويل الانقلاب العسكري لعام 1985 الى متنفس ديمقراطي حقق فيه الشعب خياراته السياسية، ولأنه فكر اصيل ومتجدد فقد جدد هذه الحقيقة اليوم بالانقلاب العسكري على المشير عمر حسن البشير، ليكونا اول انقلابين عسكريين في المنطقة العربية يلبيان مطاليب شعبهما وينتشلان اوضاع البلاد وينقلانها من الاستبداد الى الديمقراطية.
دعونا نعدد منجزات الانقلاب الديمقراطي الاخير في السودان
أولاً : ربما تكون حكومة الخبير الاقتصادي السابق في الأمم المتحدة الدكتور عبد الله حمدوك معبرة عن تزاوج موفق ما بين العسكريين والمدنيين، فالمجلس نتج عن اتفاقهما وهو مكون من 11 عضوا، بينهم خمسة عسكريين ، وستة مدنيين من تحالف قوى إعلان الحرية والتغيير، وبينهم امرأتان واحدة منهما مسيحية قبطية.
ثانياً: في عالم عربي نصفه نساء وثلثيه شباب غابت النساء والشباب عن حكوماته بينما ازدهرت في العالم الغربي، تجاوز بعض الحكام العرب التسعين عاماً وحكم اعرق البلدان الغربية (فرنسا وكندا) حكام لم يتجاوزوا الاربعين ولم تظهر النساء في عالم الرجال العربي بينما حكمت المرأة العديد من الدول الغربية القوية (بريطانيا والمانيا).. ولأن السودان المختبر العربي للديمقراطية فقد شاركت النساء وتصدرت الصفوف في الحراك الثوري الذي اسقط البشير تحت مبادرة”لا لقهر النساء”و”نساء السودان للتغيير” حتى قيل إن “الثورة السودانية أنثى” وثمار ذلك ان عينت القاضية، نعمات عبدالله خير لرئاسة مجلس القضاء وهي المرة الاولى عربياً.
ثالثاً : اختار الحراك الثوري لرئاسة الوزراء الخبير الاممي حمدوك الذي أكد في أول تصريحاته ان محاربة الفساد ستقوم بها مؤسسات القضاء والنيابة العامة والمراجع العامة، بمشاركة واسعة للشباب والنساء. وهناك توجه قوي لمشاركة فعالة للشباب في الحكومة. وقد رشحت “قوى الحرية والتغيير” القاضية ابتسام سنهوري لوزارة العدل ..هنا ايضاً نتبين جدية التوجه الديمقراطي وجدارته.. الم نقل مختبر الديمقراطية؟
رابعاً : تتعهد الحكومة والمجلس السيادي بتنفيذ برنامج قوى الحرية والتغيير الرامي الى العمل الجماعي لتحقيق الاستقرار السياسي والنهضة الاقتصادية، والعناية بالسلم الاهلي ومفاوضة الحركات المسلحة لوقف التحارب لكونه المدخل الصحيح للتسوية السياسية الشاملة، وتحقيق التنمية .
خامساً : تطبيع علاقات السودان مع القوى الدولية والمؤسسات الاممية لانهاء العقوبات المفروضة عليه، والعمل على توفير دعم المنظمات الدولية لإنعاش الاقتصاد.. ومما يشجع على ذلك ترحيب دول الترويكا، الولايات المتحدة وبريطانيا والنرويج بالحكومة الجديدة ، ودعم الدول الإقليمية والدولية.
سادساً : تعمل الحكومة وقوى الحرية والتغيير على مهمة إنجاح الانتقال من دولة استبدادية قادها لمدة ثلاثة عقود المشير عمر البشير من خلال تحالف العسكريين والإسلاميين، وتحويلها إلى دولة عصرية مدنية تنشد التغيير السياسي والاقتصادي والمجتمعي، وتعمل على تحويل دولة الحزب الى دولة المواطن. وهو الامر الذي توافقت عليه جميع قوى التغيير في البلاد من اجل ارساء نموذج للحكم المدني الرشيد في السودان .
سابعا: يعتقد حمدوك من خلال خبرته الاقتصادية الدولية ان السودان يمتلك موارد كافية لجعل البلاد دولة قوية في القارة الأفريقية . لذلك فهو يطالب بوحدة الارادة الوطنية والعمل الجامعي ويعد بتحديد الأولويات في الفترة الانتقالية، لتكون مهمته بناء مشروع وطني لا يقصي أحدا.
يبقى ان نلاحظ في كل هذه المنجزات سواء سياسة الانفتاح على مستجدات العصر وقبول الاخر والمشاركة الفعالة للشباب والنساء، نلاحظ مع شديد الاسف الغياب العربي المريب والحضور الافريقي الغالب.. فقد لعب الاتحاد الافريقي سابقاً دورا حاسما في وقف الحرب والاستقرار في دافور حين أسهم بجيش تعداده سبعة آلاف جندي في السودان استجابة لقرار مجلس الامن رقم 1564 . وعلى الرغم من حسن النوايا ونضالات قوى التغيير الا ان الحقيقة التي لابد ان تذكر انه لولا تدخل الاتحاد الافريقي وتهديده بتعليق عضوية السودان فيه وضغوطه الميدانية اليومية ومطالباته الملحة لاقامة سلطة انتقالية مدنية في السودان لما نجحت مهمة التغيير على النحو الذي سارت عليه. ما الذي يشير اليه الغياب العربي ،أهو استقالة الالتزام القومي العربي بالسودان ام انها مرحلة انتقالية لربطه بافريقيا وفصله عن العرب؟