الانسحاب الاميركي من المفاوضات مع حركة طلبان، هو تتمة لسلسلة من الانسحابات التي جعلت من الولايات المتحدة في زمن الرئيس ترامب(سيدة الانسحابات) فالانسحاب من الاتفاق النووي مع ايران، والانسحاب من اتفاقية المناخ، ومن معاهدة الصواريخ متوسطة المدى مع روسيا، والانسحاب من اتفاقات دولية مع الصين والمكسيك واوروبا وكندا، واخرها التهديد بالانسحاب من منظمة التجارة العالمية.
كلُّ هذا يجعل من السياسة الامريكية أمام رهانات صعبة، ليس باتجاه تكريس فرضية القوة الكبرى، أو فرضية السوق الكبرى، بل بإتجاه وضع العالم أمام مأزق العودة الى نظرية القطب الواحد الذي تكرّس واقعيا بعد سقوط الاتحاد السوفييتي السابق، ونظريا بعد أطروحات فوكوياما حول نهاية التاريخ، التي تأسست على إفهومة أن(الامبريالية) الجديدة هي القوة التي تصلح أن تقود المستقبل، وألا خيار للدول والجماعات والاسواق والنظم التجارية والاقتصادية سوى الخضوع للنظرية الاميركية، وللعملة الاميركية، ولطرق التجارة
الاميركية.
علاقة الولايات المتحدة بحركة طلبان الافغانية هي علاقة تأسيسية، لأنها هي التي انشأتها لمواجهة القوات السوفييتية التي احتلت افغانستان في السبعينيات، وزودتها بالأسلحة والخرائط وبكل ما هو فاعل في المعركة العقائدية، رغم معرفتها بالطبيعة الايديولوجية الاصولية التي تقف وراء الحركة، وطبيعة الجهات التي تؤمن بها مثل القاعدة، والجماعات الارهابية الاخرى، وأن قرار الانسحاب المفاجئ، ومن قبل الرئيس ترامب نفسه يعكس طبيعة الانقسام داخل معسكر المحافظين الجدد، وكذلك داخل التحالفات الاميركية مع الحكومة الافغانية، وحتى مع بعض الجهات السياسية الداعمة لحركة طلبان في باكستان، وهو الذي ألقى ببعض ظلاله على تطورات الازمة الاخيرة بين الهند
وباكستان.
الانسحابات ولعبة «اللاين»
ليست بعيدة هذه الانسحابات عن السياسة، ولا رغبة المحافظين الجدد في المجتمع السياسي الاميركي في تكريس سلطة اليمين، وفي تغذية الصراعات الناشئة في العالم، وتحت يافطة الحفاظ على التوازن الاقتصادي والسياسي العالميين، وعلى الوقوف بوجهة الجماعات الاسلامية الجديدة، التي تكشف عن كراهية واضحة للسياسة الاميركية كما في ايران وسوريا واليمن والعراق ولبنان، وحتى في باكستان بعد اختيار عمران خان لرئاسة الوزراء، مثلما تكشف عن دعم غير مسبوق لاسرائيل، ولهويتها الدينية، وحتى لامتداداتها على مستوى الارض العربية المحتلة في الجولان، وكذلك على مستوى الداخل الفلسطيني في القدس وفي الضفة
الغربية.
اللاين هو خيار عدمي، لكنه في السياسة الاميركية خيار قصدي، والغاية المُضمرة منه هي خلط الاوراق، وضياع الاتجاهات، وبعثرة التحالفات، وضياع القضايا الكبرى، فما يجري في المنطقة العربية يكشف عن ضياع قيمي وستراتيجي للقضية الفلسطينية، ولأطرها التاريخية والانسانية، وللجغرافية ايضا، إذ تحولت ما يسمى ب(صفقة القرن) الى لعبة واضحة لتكريس هذا الضياع، ولاختزال القضية الفلسطينية في مجال اشباع الحاجات الاقتصادية للفلسطينيين، وللدول الجائعة التي تلوذ بها وتتحمل وزر لاجئيها، فضلا عما يفترضه هذا(التضييع) من ممارسات تقوم على اعادة انتاج فكرة(صناعة العدو) التاريخي، وتحويل جهته من اسرائيل الى ايران، وبالتالي ايجاد مجال لإعادة صياغة كثير من الافكار والمفاهيم، وحتى الخرائط عن طبيعة المنطقة وتاريخها، وعن مسار التحالفات، وعن هوية الاسواق والممرات المائية، وأحسب أن ما يحدث الان من أزمة صاخبة في الخليج وفي مضيق هرمز هو تجسيد لهذه الصياغة، التي قد تُنذِر بحربٍ ما، أو لواقع جديد يتطلب مفاوضات واتفاقات جديدة، علنية أو سرية، لكنها ليست بعيدة عن الحفاظ على الامن الاسرائيلي في المنطقة، أو الحفاظ على عائدية اسواق النفط لصالح المسار الاميركي، أو لمنع وجود قوة أخرى ذات نفوذ منافس في المنطقة، لاسيما النفوذ الروسي أو الصيني أو حتى الايراني.
كما أن الذهاب الى خلق مشكلات عميقة مع روسيا ليست بعيدة عن هذا المسار، فما حدث في أوكرانيا، أو ما حدث ازاء التدخل الاميركي في ازمات سوريا وفنزويلا وايران هو تورية لتوسيع تلك المشكلات، وربما الى جرّ روسيا الى حرب باردة جديدة، أو الى توريطها في استنزاف تسليحي جديد، من شأنه أن يهدد الأمن والاقتصاد الروسيين، ويُضعفها في مجال المنافسة مع الولايات المتحدة، وتضخم توجهات حرب الغاز الى اوروبا،
لذا تحوّل موضوع الانسحاب من معاهدة الصواريخ متوسطة المدى الى ذريعة لإشعال ازمة سياسية وامنية، والى المطالبة بـ(مفاوضات جديدة) على طريقة الدعوة الى مفاوضات جديدة مع ايران حول ملفها النووي، وباتجاه أن تكون مفاوضات سياسية أكثر من كونها مفاوضات ذات اسس فنية
وأمنية.
الهروب من الحرب الى الازمات.
امريكا الترامبية لم تعد تُفكّر بالحرب، لأنها لعبة في الخسارات، وأن جلّ ما يمكن أن تقوم به هو توريط الاخرين بالأزمات، ودفعهم للقبول اضطرارا للتفاوض مع الولايات المتحدة وبشروطها، فالحصار والانسحاب من هذه المعاهدة أو تلك، وتأزيم التعاملات التجارية ورفع الرسوم معها، سلوك يكشف عن وجهٍ آخر للحروب الاميركية، ولنواياها في السيطرة على الممرات المائية والنفطية، ودعم حروب الاخرين، عبر دفعها لشراء الاسلحة الامريكية، أو دعم المتحاربين بالمعلومات، وحتى اللجوء الى التفاوض مع جهة من دون رغبة الجهة الاخرى، كما تحدثت الاخبار عن مفاوضات اميركية مع حركة(انصار الله) في اليمن، وحتى في سكوتها عما يجري من صراعات في جنوب اليمن بين ما يسمى بشرعية حكومة هادي والجماعات الانفصالية
الجنوبية.