من قال إنّنا نبكي الحسين (عليه السلام) أو نرثيه؟! إنّ من يظن ذلك فهو جاهلٌ بمعنى الشعائر وعمقها الأخلاقي والفلسفي والنفسي، على أن بعض الجهلة ممن شوّهوا هذا الإرث بقصد أو دون قصد قد دفعهم المخيال الشعبي إلى ابتداع سلوكيات وطقوس ارتجالية مخلة بواقعة الطف تاريخاً وثورة وقيماً بطولية وأخلاقية وعقائدية، ويقتضي الحال أن نقف ضد كل ما يشوّه الشعائر الحسينية، وعلى المؤسسات الدينية أن تدفع باتجاه تنقية السلوكيات الدخيلة المستهجنة التي أتاحت لبعض المتربصين فرصة للنيل من عقيدة دينية بأكملها.
تمارس شعوب الأرض بمختلف الأديان والملل والنحل والطوائف والمرجعيات الثقافية طقوساً سنوية، بعضها يحتوي على ممارسات عنيفة، وبعضها غرائبي حد الخيال، وفي دول علمانية ديمقراطية آسيوية وأوروبية وأميركية، ولا يجرؤ أحد على الاعتراض عليها أو انتقادها عملاً بحرية المعتقد واحترام الآخر المختلف، لكننا في كل عام، مع شهر محرم نشهد حملات جائرة ضد الشعائر الحسينية، تحت باب التخلف والهمجية وتبكيت الضمير وجلد الذات والتهويل والبدع، من مختلف الاتجاهات الدينية والعلمانية، من الجهلة والمتعلمين، من المسلمين وغير المسلمين، ومن بعض الشيعة أنفسهم، نعترف أن بعض الانتقادات منطقية، ونحن مع أن تكون الشعائر الحسينية بمستوى الثورة ومخرجاتها الأخلاقية، وتأتي بعض التنظيرات التي تتمحور عادة حول عقدة الذنب التي يشعر بها العراقيون لشعورهم بأنهم أحفاد أولئك الذين غدروا بالحسين، والواقع إن الشعائر الحسينية ليست خاصة بالعراقيين، فهي قائمة في الهند وتركيا وباكستان وإيران ودول الخليج والكثير من دول آسيا وأفريقيا التي تقطنها أقليات شيعية، وغالبية مراجع العراق وعموم الشيعة لا يعتدون بما هو خارج اللياقة من مبالغات وعنف وتشويهات لصور البطولة والإباء، لكن الذهنية الشعبية تشطح خارج الحدود من دون ضوابط ومعايير.
الحسين وأصحابه شهداء أحياء في قرارة الجميع، فلمَ البكاء والعويل واللطم وإيذاء النفس والجسد؟! لكن هل ينبغي أن نقيم احتفالات الفرح؟! أم نترك الشعائر؟! هنا عقدة الموضوع، فإن قلنا بالفرح فهو أمر مستهجن ومرفوض، وإن قلنا بتركها فهو أمر مستبعد وغير مقبول، فإذاً نقيم طقوس العزاء والحزن، على أن تكون بمثابة رسالة أخلاقية تستحضر بطولة الحسين وأصحابه ومبدئية قضيتهم، ورسالة الحسين العقائدية الإصلاحية التي لم توقف استبداد السلطة، لكنها حجّمته وفتحت الباب لمئات الانتفاضات والثورات التي أفقدته شرعيته، نعم نقيمها للتذكير بقمع السلطة الغاشمة وعنجهيتها ودمويتها وإرهابها، وبما يُرهب كلَّ مستبدٍ طاغٍ، ويصلح حال الأمة ويغذي نهضتها الحضارية، نستذكر الحسين وأهل بيته وأصحابه بصورة تليق برمزيتهم الدينية والأخلاقية، وبما يرفع قضيتهم من إطارها الطائفي المحلي الضيق إلى المستوى الإنساني العالمي، ومن مستوى الممارسات الشعبية إلى بعدها الثقافي ودلالاتها الفكرية العميقة، نحن مع تهذيب الطقوس وتنقيتها مما علق بها من شوائب، ومع النقد شرط ألّا يصل حدَّ السخرية والشماتة بأرواح الأبرياء ممن راحوا ضحية التدافُع، وهو ما يحدث حتى في ملاعب كرة القدم.