تروج في الآونة الأخيرة خطابات كثيرة حول الجسد، منها ما يتعلق بالرشاقة والأناقة، فضلاً عن الدعايات الكثيرة عن عمليات التجميل والتنحيف والمكياج والشعر وغيرها من حملات لم تعد موجهة إلى المرأة فقط، بل باتت تلقى استحساناً من الرجل المهتم بمظهره وأناقته وشياكته، زد على ذلك حملات التحليل والتحريم والتغطية والتعرية وما يصاحبها من اختلافات في وجهات النظر والآراء من مجتمع إلى آخر ومن فئة إلى فئة، تصل في بعض الأحيان والمجتمعات إلى حد القتل والنبذ والتحقير، وفي هذه الحالة الأخيرة يقتصر توجيه الخطاب إلى المرأة، حاملة جسد تصب فيه كل العقد، وتمارس عليه كل صنوف التوحش. لطالما كان جسد المرأة والرجل محوراً للحضارات الأولى ومعبرين عن عمق وكنه ومستويات الجمال، فتكشف لنا التنقيبات الأثريَّة رسومات تصور أجساداً لشخصيات عاشت في تلك الحقب بمختلف حالاتهم وأوضاعهم وطريقة عيشهم، فلم تكن الغاية مرتبطة بالإغواء والإثارة التي تتجه إليها أذهان البعض حين الحديث عن الجسد بشقيه الأنثوي والذكوري، صُّور عارياً ومرتدياً ملابس تمثل أزياء دولته، محارباً وعاملاً، وبكل تفاصيله.
منذ بداية الخلق ونشوء البشريَّة مورست سلطات عديدة على الجسد البشري من مختلف الجهات الدينيَّة والدنيويَّة والاجتماعيَّة والاقتصاديَّة والسياسيَّة، فوجدت العادات والتقاليد والدول وأيضاً الأديان لتحبس الجسد وتكبح جماحه، فتخرجه من فطرته الحرة، وتضعه في إطار اجتماعي وديني وتنظيم سياسي، حددت تصرفاته وقيدت حركاته ووظيفته ورسمت له الدور الذي عليه تأديته وفقاً لمصالحها وغايتها، فلم يعد مسموحاً له الخروج من دائرة المحرمات والنواهي التي وضعتها. لكي تبقى السلطات قادرة على فرض وجودها وضمان بقائها سواء أكانت سلطة سياسيَّة أو دينيَّة أو أبويَّة، فقد عمدت إلى نشر سياسة التخويف والترهيب والقمع وكثيراً من العنف الجسدي والنفسي على الجسد، وكأنها هي المالك له وصاحبة الحق في التصرف به. اجتماعياً كان جسد المرأة محط الأنظار والمراقبة، ومحلاً لتنفيس جميع العقد النفسيَّة والغريزيَّة والمرضيَّة، ولم يكن إلغاء وأد البنات كافياً للاعتراف بذلك المخلوق “المرأة” ومنحه الحق في التصرف بجسده وحمايته والعناية به، بل بقيت النساء توأد ونحن في القرن الحادي والعشرين، فلا تزال تلك الأفكار مخزّنة في وعي ولا وعي البعض لتمارس سلوكيات أبشع من الوأد، ولنا في جرائم الشرف مثالٌ حيٌّ على تحكم البعض بأجساد الآخرين وأرواحهم.
تختلفُ النظرة إلى الجسد باختلاف المجتمعات، والعرف الاجتماعي السائد، والثقافة الشعبيَّة التي تحكم وتتحكم، فضلاً عن الاختلاف بشأن أعضاء الجسد، بين مقدس ومدنس، وحلال وحرام، فمنذ اللحظة التي يغادر فيها الجسد ذلك الرحم الذي احتضنه، يتسلمه المجتمع، ويبدأ بتشكيله وإعادة هيكلته، ويبدأ الفرز النوعي بين ذكر وأنثى، مقسمين إياه من أعلى إلى أسفل، متسامحين في البعض، ومتشددين في بعض آخر.
ثمة مفاصل كثيرة يثيرها الحديث عن الجسد مع فيضٍ من الالتباسات والاختلافات، لا سيما في مجتمعاتنا الشرقيَّة، لذا من مقولة للكاتبة المغربية فاطمة المرنيسي: “اعتاد الشرق أنْ يغطي نساءه، بينما اعتاد الغرب الكشف عنها” سيكون للحديث بقيَّة.