منى محمد زيارة
تمثل زيارة العيادات النفسيّة في نظر الكثيرين اشارة حتميّة للجنون والاضطراب النفسي المفضي للعنف والإجرام، فعلى الرغم من التطور المجتمعي والعلمي والاقتصادي لكن يبقى مفهوم الطب النفسي غير مرغوب فيه لغاية الان، ومع تزايد هموم الفرد بتغير ظروف الحياة التي اصبحت اكثر تعقيدا مازال هناك من يخشى طرق باب علم النفس لمعالجة بعض الامور الشخصية التي يعاني منها.
حكاية واقعيّة
تقول عبير محمد: لم أفكر ولو للحظة واحدة طوال سنوات عمري التي قاربت على الثلاثين انني قد ألجأ يوما ما لطبيب نفسي، وعندما كنت ارى في المسلسلات او الافلام ان البطل او البطلة يترددون للعيادات النفسية أقول مع نفسي انه مجرد تمثيل يريد بها المخرج اضافة الاثارة او التشويق للعمل الفني، لكن ما ان تزوجت وبدأت اتحمّل مسؤولية عائلتي واطفالي وبعد انفصالي عن زوجي، بدأت أعاني من قلة النوم والارق المستمر وتشوش العقل والعواطف، فلم أعد أعرف ماذا اريد او كيف سأوفر كل ما يحتاجه ابي وامي واولادي حتى اصبحت لا اطيق العمل او الرجوع الى البيت، وفكرت عدة مرات بالانتحار، وخلال مرحلة الانهيار هذه مررت بإحدى المناطق التي يكثر فيها الاطباء وبمختلف الاختصاصات وبدأت اقرأ اسماء الاطباء الموجودة على العيادات للتسلية وهرباً من الافكار المتزاحمة في عقلي، وما ان وقع نظري على احدى هذه الاسماء (د. فلان الفلاني) اختصاص في الامراض النفسية والعصبية، لم انتبه اين تجرني خطواتي حتى وجدت نفسي امام السكرتيرة اطلب منها رؤية الطبيب في الحال، بعد دقائق معدودة مرت كأنها سنوات دخلت استقبلني الطبيب بابتسامة كبيرة وبدأ يسألني اسئلة روتينية، اسمك، مهنتك، حالتك الاجتماعية وغيرها، هو انتبه اني اريد ان اتكلم عن مشكلتي عندها سألني كيف هو يومك، بدأت اتحدث لساعتين متواصلة دون مقاطعة منه، وما ان انتهيت حتى طلب مني ان أزوره غدا، وبالفعل ذهبت اليه وطلب مني اعادة ما قلته امس لكن باختصار، وبعد انتهائي قال لي هل رأيتِ امس تجاوز كلامك ساعتين والان لم يتجاوز نصف ساعة، عقلكِ اهمل بعض الامور غير المهمة والتي كبرت نتيجة مرورك بضغوط اجتماعية واقتصادية فاصبح العقل يزيد حجم المشاكل ويهوّلها الى ان تنفجر في وجه صاحبها، وهكذا استمريت بأخذ الجلسات حتى استطعت النهوض من واقعي المظلم القاتم والتخطيط لحياتي من جديد بهدوء والتخلي عن الافكار السوداوية التي كانت تلاحقني وحولــــــت حياتي الى
جحيم.
السلوك والمزاج
تعـرّف الدكتورة مائدة عباس النواب اختصاصية الامراض النفسية والعصبية، الطب النفسي بأنّه أحد فروع الطب المتخصص بدراسة وتشخيص وعلاج الاضطرابات النفسية ويشمل مختلف العناصر الخاصة بشخصية الانسان منها السلوك والمزاج والادراك والفهم، فهنالك نوعان من الامراض النفسية؛ الاول: هو الامراض العصابية مثل الكآبة والوسواس والقلق، والنوع الثاني: هو الامراض الذهانيّة كالفصام او الذهان مثل الشكوك الناتجة عن الادمان.
تقول د.مائدة: للأسف الكثير من المرضى يخافون من ذكر الطبيب النفسي، وهذا بحد ذاته يمثل مشكلة كبيرة؛ لان المجتمع الذي ولد ونشأ فيه لم يزرع فيه ان أي انسان معــرّض للإصابة بالأمراض النفسية حاله حال بقية الامراض الاخرى، وان هذا الشيء يتطلب مراحل علاجية قصيرة او طويلة وحسب استجابة المريض وخاصة في مجتمعنا الذي تعرض لكثير من الازمات والحروب ولّدت حالات نفسية واجتماعية مختلفة.
مشكلة عالميَّة
تؤكد د.مائدة: انتشار ظاهرة لجوء المرضى النفسيين الى من يطلق عليهم الروحانيين والمشعوذين الذين يجعلون حالة المريض تزداد سوءاً لاستخدامهم أساليب وطرقا لا تمت للعلم بصلة، فضلا عن استنزاف اموالهم، بحجة اصابتهم بالمس او غيره، لتخويف المريض من ارتياد العيادة النفسية ومعرفة أسرته واصدقائه واتهامه
بالجنون. وتضيف: ان الخجل من التردد على الطبيب النفسي اصبح مشكلة عالمية لكنها تنتشر بشكل كبير في الدول النامية مقارنة بالدول المتقدمة؛ بسبب الوصمة الاجتماعية للفرد والعائلة نتيجة قلة الوعي في هذا الجانب، فضلا عن محاولة إفهام المحيطين بأن أغلب الامراض هي مؤقتة قد تستفحل في حال عدم تلقي العلاج، كما يلعب الخوف من الادمان على الأدوية سبباً اخر للامتناع عن الاستشارة النفسية، وهذا يـُـعد فهماً خاطئاً، فأحياناً لا يحتاج المريض الى أي نوع من الدواء فقد يكون الاستماع والحوار والنقاش هو الانسب له لحل كل مشاكله، ولكن في بعض الاحيان يلجأ الطبيب لوصف علاجات معينة ليست لها آثار جانبية تـــــــــُـذكر خاصة مع التطور الهائل في مجال الطب
النفسي .
النظرة السلبيَّة
وتشدد د.مائدة على: ان التكتيم الاعلامي والاسري على اهمية الطب النفسي في حياتنا اليومية الاسرية منها والعملية جعلت الكثير منا يعتقد ان كل مريض نفسي لا بدّ ان يكون مجنوناً، ولا بدَّ من عزله بعيدا عن افراد المجتمع حتى لا يسبب أي مشكلة للآخرين، وهذا مفهوم خاطئ تربت عليه اجيال عديدة، لذا اصبح من الضروري التعريف بهذا العلم بطريقة ايجابية غير منفرة، وان وجود الطبيب النفسي ضرورة اجتماعية ونفسية للتخفيف من وطأة الحياة وضغوطاتها، فكلنا نواجه الصعوبات والمعوقات التي تجعلنا مشوّشي الذهن غير قادرين على اتخاذ أي رأي او التقدم خطوة للأمام، وعلى كل المؤسسات الاجتماعية والاعلامية ان تأخذ على عاتقها اعداد برامج وورش توعويّة لتغيير النظرة السلبية تجاه هذا العلم .