ظاهرة الفقر بين السياسة وعشوائية الاقتصاد

آراء 2019/10/01
...

علي حسن الفواز
 
بقطع النظر عن المرجعية المفهومية لمصطلح الفقر، ولمستويات التعاطي معه من قبل المنظمات الدولية ومراكز البحوث، فإن الطبيعة الاجتماعية لهذا المفهوم جعلته من اخطر العوامل التي تهدد الاجتماع ذاته، وتفرض معطياتها على صناعة صورة شوهاء، لها آثارها النفسية والاخلاقية، مثلما هي آثارها البنيوية على تأطير علاقة الانسان طبقيا واجتماعيا بالمعيش والنظام.
تحوّل الفقر الى ظاهرة أفضى الى افراز تشوهات هيكلية وتنموية عميقة، والى معطيات مرعبة، ليست بعيدة عن طبائع الانظمة السياسية، وبالقيم المهيمنة، ولا عن القوى التي تفرض سيطرتها على وسائل الانتاج وعلى الانتاج ذاته.
لايملك العراق- تاريخيا- توصيفا محددا لاستشراء ظاهرة الفقر، فهو (ارض السواد) والبيئة التي تملك خصوبة مائية وزراعية، فضلا عن ما يملكه من بيئة اجتماعية لها علاقة فاعلة مع الارض ومع انتاجها، وهذا مايجعل توصيف الفقر في العراق ينطوي على اسباب سياسية، وعلى صراعات طويلة مع الاخرين، وأكثرها رعبا هي الاستبداد وأثرته في السيطرة والاستحواذ، وكذلك تداعيات الحصارات والحروب والاحتلال، وهي عوامل خارجية لها تأثيرها على انتاج واقعة الفقر، وعلى تنميط الحياة العراقية في سياقات طبقية حادة..
اعادة قراءة ظواهر الفقر في العراق في مرحلة مابعد عام 2003 مسؤولية كبيرة، على مستوى تأشير اسبابها، ومعرفة علاقتها بالسياسات العامة، وبرداءة التخطيط، والضعف الهيكلي للدولة، أو على مستوى تضخم الجماعات الطفيلية المسؤولة عن تضخم ظاهرة الفساد ونشوء”طبقات” مائعة وغير واقعية، فرضت سطوتها على الثروة، وعلى وسائل الانتاج ومصادره، وأنّ تضخمها ونموها المشوّه كان على حساب البنيات الطبقية المعروفة في المجتمع
العراقي.
السياسات العامة في سياقها الاقتصادي محكومة للاسف بكثير من العشوائية، فليس هناك اقتصاد حر له أسسه، وأطره، وليس هناك اقتصاد مركزي محكوم بعامل السلطة المسؤولة عن الثروة وعن الجمهور، فالنظام السياسي الجديد، ورغم الهامش الكبير للحريات، وللنمط التقليدي للديمقراطية، إلّا أنه محكوم بمجموعة من المهيمنات السياسية خارجيا وداخليا، وأخطر وجود قوى خارج سياق الدولة، والنظام الطبقي، ولها تأثيرها القوي والفاعل والذي يتجاوز ماتملكه  الحكومة من صلاحيات، ومن قوة نافذة.
مايبدو واضحا للعيان هو اضطراب توصيف الدولة والنظام والاقتصاد والسوق والثروة، فبقدر ما أن الاقتصاد العراقي ظل محافظا على تاريخيته الريعية، فإن مجمل السياسات الاقتصادية كانت مضطربة وغير واضحة الملامح، والتي لا تملك ارادة حقيقية في توجيه الثروات وزيادة الموارد، وفي تنظيم استخدامها في التنمية والاشباع، وفي السيطرة على تشظيات كثير من الظواهر الاجتماعية، ومنها ظاهرة الفقر الذي تحول الى ظاهرة عامة، عبر فقدان عديد الجماعات حمايتها الاقتصادية، وبروز ظاهرة البطالة الواقعية والمقنعة بعد انهيار كثير من مؤسسات النظام السابق المترهلة اصلا، فضلا عن التصدّع المريع الذي حدث في بنيات عملياتية كانت فاعلة في ضبط ايقاع اقتصاديات السوق العراقية، لاسيما القطاع الخاص، وبعض الاعمال التجارية الاخرى في الاستيراد 
والتصدير.
 
سياسات غير اقتصادية
 الفقر في العراق ظاهرة مصنوعة أكثر مما هي واقعية، فبقطع النظر عن عدم وجود بيانات حقيقية، ومن جهات تخطيطية ترصد هذه الظاهرة، فإن واقع الحال يؤشر ارتباط الفقر بسوء الادارة والفساد وضعف التخطيط، والهدر الكبير في الثروة، وكذلك ضعف الجانب الرقابي والحوكمي، مقابل ضعف بنية الدولة المؤسسية، وضعف الاداء وغياب تطبيق القوانين التي تخص ايجاد معالجات واقعية لظاهرة الفقر، ولمواجهة الفساد، وكل الاسباب المسؤولة عن تضخم ظاهرته، فضلا عن ضعف الادوار الساندة- حقوقيا وثقافيا- من قبل  المجتمع المدني والجامعات، والتي يمكن أن تلعب دورا  مهما في هذا السياق لاعادة توصيف الفقر، وللمساعدة في  معالجة اعراضه، وفي صنعة رأي عام ضاغط لنقد الاداء الحكومي، ومحاسبة الفساد والفاسدين، وكل الجهات التي تروج له، والتي تعمل لحسابات داخلية أو خارجية، أو لتشوهات تدخل في سياق العشوائية الاجتماعية ذاتها..
اثارة الحديث عن الفقر يعني البحث عن المسؤوليات التي يمكن أنْ تؤطّر ظاهرته في السياق الاجتماعي، وفي علاقة ذلك بالاجراءات السياسية، وبالقوانين الحمائية التي يمكن لها خلق بيئة حقوقية لمواجهة الفقر، ولتوصيف هذا الفقر عبر بيانات ومعلومات ينبغي أن توفرها وزارتا التخطيط والعمل والشؤون الاجتماعية، بوصفهما الجهتين المسؤولتين عن المعلومات، وعن معالجة من هم دون مستوى خط 
الفقر.
 
البحث عن الحلول
اعتماد التخطيط العلمي في التعاطي مع الوقائع العراقية قد يكون هو المدخل الاساس للتعرّف على الظاهرة، وعلى بيان مستوياتها واسبابها، وربط معطيات هذا التخطيط بالسياسات النافذة للحكومة، مقابل العمل على توسيع مديات الدعم لبرامج الحماية الاجتماعية، وبما يليق بالمواطن العراقي، وضمن اجراءات غير معقدة وغير بيروقراطية، فضلا عن العمل المؤسسي لتوسيع الاطر التنظيمية الساندة لعمل لقطاع الخاص، وعبر اجراءات فاعلة لحمايته، والاجراءات التشجيع التنافسي لبضاعته، مقابل ضبط السياسة الاستيرادية العشوائية، والتعاطي بعقلانية مع انظمة الكمارك والضرائب، وبما يحقق ايرادات اضافية للثروة الوطنية، ولحماية المنتوج العراقي في سياق التنافس مع المنتجات الاخرى، وفي سياق ايجاد بيئة اقتصادية تنظيمية محمية، وذات هوية معروفة، بما يضمن لها حضورها الفاعل والحقيقي في البيئة الاقتصادية العراقية القابلة للتنافس التصديري، والداعم لتشغيل أكبر عدد ممكن من الايدي العاملة 
العراقية..