خرجت في اليوم الأول من هذا الشهر تشرين الأول تظاهرات في بغداد أعقبتها أخرى في عموم المحافظات الوسطى والجنوبيّة، طالبت بإنصاف الشباب وتحسين عيشهم وتوفير فرص عمل لهم، على وفق شهادات حصلوا عليها أو قدرات يتمتعون بها. وهو حق مشروع لهم يكفله الدستور، الا أن هذه المطالبات قد رافقتها أعمال عنف وتصادم بين أصحابها الشباب من جهة وبين القوات الأمنية المكلفة بحمايتهم من جهة أخرى، شوّهت من طبيعة التظاهر وحرفت بعض توجهاته، وزادت من تعقيدات المشهد الذي تطور سريعاً باتجاه الخسارة في الأرواح
والأموال.
إنّ موضوع التظاهر الذي تكرر في العراق منذ بداية التغيير عام ٢٠٠٣ وحتى الآن، هو وإن لم يوصل القائمين عليه الى حصد نتائج الضغط على الحكومات للاستجابة الى المطالب حسبما يريدون، الا أنّها أربكت الدولة وأعاقت خطوات تقدمها في أكثر من مرة، ومع هذا فإنّه من المتوقع أن يزداد مستوى الارباك هذه المرة وبما يفوق المرات السابقة، لأن طبيعة التظاهر والمتظاهرين مختلفة، فالأعمار التي خرجت في سن الشباب المبكر أغلب أصحابها لا يعون مرحلة حكم صدام ولم يتذكروا أيامها ولم يتحمّلوا بعض آثارها ليوصفوا بعثيين، وهم جميعا مستقلون لا ينتمون الى أحزاب سياسية أو دينية تتحكّم في أهوائهم مثلما كان يجري في السابق، ومطالبهم محصورة بالحصول على فرص عمل وتحسين ظروف
العيش.
لكن المطالب التي أعلن عنها المتظاهرون ليس من السهل تحقيقها عملياً، إذ أن الوظائف في الدولة ليست معبأة بالموظفين حسب الملاك فحسب
، بل وهناك زيادات في أعدادها وهناك بطالة في العمل الوظيفي الرسمي
، فيصبح من غير المعقول إضافة آلاف جديدة لما موجود من قبل، والحكومة خاضعة للموازنات وأبواب صرف وليس بمقدور أحد أن يصرف من خارجها ديناراً واحداً
، لذا يكون من الأسلم النظر الى الموضوع نظرة واقعية تتأسس على إيجاد فرص من خارج الأطر التقليدية
، والفرص المحتملة والممكنة تأتي من تحريك عجلة الاقتصاد العراقي عن طريق الاستثمار، الطريق الوحيد في حال تفعيله استيعاب كل هؤلاء الشباب وغيرهم في اطار العمل المنظم والمضمون
، الا أن خبرة السنين الستة عشر تشير الى مصاعب في هذا الشأن تتعلق بسعة الفساد الذي ينخر جسم الدولة ويحول دون تحقيق أهداف وخطط الحكومة في الاستثمار
، إذ أن أصغر موظف فاسد على سبيل المثال يمكن أن يعيق تطبيق وإحالة مشروع استراتيجي للاستثمار
، يضاف الى هذا ضعف القوانين وتخلفها عن الحاجة الفعلية للاستثمار والروتين الحاصل وهذه معطيات تحول دون تحقيق وتقدم الاستثمار
، والى أن تحل الحكومة إشكالات الفساد أو بعضا منها وتقلل من الروتين وتصوغ قوانين تسهل عملية الاستثمار ستبقى عيون الشباب مفتوحة على ساحات التظاهر سبيلاً وحيدا للتعبير عن تطلعاتهم ومساعيهم في العيش الآمن
المستقر.