نأسف مقدماً على ما حدث أثناء التظاهرات الأخيرة، ما كان ينبغي أن نسمح بهدر دماء زكيّة على أرصفة الشوارع، فبالأمس القريب تحرّرت مدننا المحتلة من داعش بدماء طاهرة لأخوة الذين سقطوا في التظاهرات ولأبناء عمومتهم وآبائهم وأصدقائهم وجيرانهم، دورة الدم العراقي نفسها، فإلى متى يبقى العراقيون ينزفون؟! أما آن الأوان لنستريح قليلاً من شخيب الدماء؟ منذ عشرينيات القرن المنصرم ودمنا ينزف، مرة بسبب الثورة على الاحتلال وأخرى بسبب الصراعات الحزبية والانقلابات وأخرى بسبب الصراع مع الأخوة الكورد، حتى مطلع الثمانينيات لنجد أنفسنا رهائن حرب عبثية على مدى ثماني سنوات تلتها عملية غزو الكويت وفي كلا الحربين نزفنا دماء غزيرة، ثم الانتفاضة الشعبانية التي أسست لثقافة المقابر الجماعية، تلتها سنوات القحط والجوع والذل، هذا إلى جانب مجازر حلبجة والأنفال والأهوار والدجيل وحفلات الإعدام الجماعي وغيرها، ولم يكتفِ القدر العراقي بكل تلك الدماء فللنزيف بقية، لنبدأ تاريخاً جديداً بعد العام 2003م فتتواصل دورة الدم العراقي سواء على أيدي قوات الاحتلال أم على أيدي الجماعات الإرهابية التي تناسلت كخلايا أميبية أو أورام سرطانية في الجسد العراقي، وكلما نجتث ورماً ينمو بمحله آخر أشد خطورة، ومن الحرب الأهلية التي وقانا الله شرها بشق الأنفس إلى داعش، فما بالنا اليوم نصرُّ على النزيف؟ أما كان بالإمكان احتواء التظاهرات بأساليب أكثر تحضراً وأقل خطراً؟
من كان وراء هذا التأجيج غير المسبوق؟ فالقوات الأمنية بريئة كبراءة الذئب من دم يوسف، بل إن بعض عناصرها كانوا من بين الضحايا، وما قصة القناصين الذين اعتلوا بعض البنايات واستهدفوا المتظاهرين والقوات الأمنية في آن واحد؟
أعتقد بأن الإجابة عن هذا السؤال ستعيد الثقة بين المواطن وقواتنا الأمنية، وهي مسألة غاية في الأهمية.
السلطات الثلاث استجابت بسرعة لافتة لمطالب المتظاهرين واتخذت إجراءات سريعة لمعالجة العديد من الأزمات على وفق القوانين، لكن ما كنا نتمنى أن يتحقق هذا بصفة ردة فعل، وهي إجراءات كانت معدة وجاهزة وممكنة، فمن كان وراء تعطيلها؟
هناك إجراءات أخرى يمكن أن تتخذ بالسرعة ذاتها أشرنا إلى بعضها في عدة مناسبات، أهمها الشروع بمشاريع استثمارية شريطة أن توظف الطاقات العراقية المعطلة وتوفر فرص العيش الكريم لآلاف العاطلين، وإلزام القطاع الخاص بتشغيل نسب من الخريجين، إلغاء عقود المتقاعدين وإيقاف العمل بالاستثناءات وتمديد سن التقاعد، إلزام الشركات النفطية بتشغيل أبناء المحافظات التي يعملون فيها، منع الأطباء والصيادلة وذوي المهن الصحية من العمل بعدة أماكن ما بين المستشفيات الحكومية والأهلية والعيادات الخاصة، واعتبار العمل وظيفة لصالح جهة واحدة فقط، العمل بإجراءات شطر الدوام الصباحي عن المسائي الذي اتخذته وزارة التعليم العالي لتعيين حملة الشهادات العليا، والأهم من هذا وذاك ملاحقة الفاسدين واسترداد أموال الدولة المسروقة، وتقنين الرواتب
التقاعدية ابتداء من مجلس الحكم وانتهاء بالمجالس البلدية، ثم تقنين الرواتب والمنافع الاجتماعية للرئاسات الثلاث وتوظيف الفائض من هذه الأموال لخدمة المواطن، فلعلنا نسهم بتقنين الدم العراقي وإيقاف النزيف.