كرم التحرير

آراء 2019/11/12
...

إبراهيم سبتي
 
المحنُ والأزمات تولد تلاحماً عجيباً، إنها هبّة لا يمكن وصفها بغير المعاجز التي لا تحصل في أي مكان. هنا في التحرير حيث التظاهر من أجل الحقوق والمطالب بسلمية لا مثيل لها، برزت ملحمة كبرى في التكافل والإيثار والتنافس على تقديم ضرورات الديمومة والاستمرار. هذا يقدم طعاماً وذاك يقدم ماءً بارداً وآخر يمنح تجهيزات طبيَّة وأشياءً أخرى. هي إذنْ كفالة اجتماعية لنقل حقيقة شعب. الشعب الذي نظم صفوفه ليقدم لوحة مطالب تحقق له مستقبلاً أفضل. هو تأثير نفسي للمتظاهرين الذين تكفّل الدستور بالسماح لهم بالإفصاح عن مطالبهم.
إنَّ معجزة التكافل بتوفير ما تعجز أية جهة عن توفيره لآلاف المتظاهرين المحتجين وهم في الأسبوع الثاني، لهو إعجازٌ نادرٌ ترفع له القبعة، خصوصاً أنَّ هذه المبادرات لا تحصل إلا في المحن والمناسبات التي رأيناها كيف تفاعلت وأبدى المواطن الميسور اندفاعه في التبرع بكل ما يملك لتقديمه الى تلك التجمعات من دون منّة أو فضل أو ترفّع.
إنها ضريبة الوطن الذي يرفع أبناؤه يافطات التظاهر التي أعطت درساً بليغاً في رسم الروح الواحدة المضحية للارتقاء والتطور. لقد برزت ايقونات كثيرة في التظاهرات الحالية وهم يطالبون بحقوقهم المشروعة، ومنها "التكتك" الذي ضرب مثالاً إنسانياً وأخلاقياً في تحركاته المثيرة للإعجاب وكوّن حقيقة بارزة في خضم التواجد الهادر للشباب الواعي الذي أظهر عفويَّة بالغة ومثيرة في رسم معالم جديدة على الأرض لم تكن معروفة. إنَّ "التكتك" الذي يقوده الشباب وهو وسيلة رزق يومهم لإعالة أسرهم، يأتي لساحة التحرير ويقوم بأعمال إعجازيَّة فاقت حجم العربة الصغيرة وفاقت توقعات المراقبين لسير التظاهرات. وكانت تلك العربة الصغيرة قد بعثت رسالة مفادها أنَّ الشعب واحدٌ في المحنة وواحدٌ في المطالبة بالحقوق من خلال تظاهرة كفلها الدستور وراح ينقل الشباب بأريحيَّة وصفاء نيّة. ولا يخفى على المتابع ما تقوم به الفتيات المتطوعات من خلال تقديم الإعانة الطبيَّة والرسم على جدران نفق التحرير أو تنظيف الأماكن بروح أخويَّة وثابة وبمساعدة الشباب المتظاهر الذي أثبت تمسكه بأخلاقه وتهذيبه وتكافله ووقوفه مع اخوته.
إنَّ ساحة التحرير أثبتت للعالم أنَّ التلاحم والتكافل هو عراقي بامتياز وهي كالنخلة العراقية الباسقة التي لا تهزها ريحٌ عاصفة. وبذا سجلت الوقفة تماسكاً بالثوابت الوطنية التي كفلتها الشرائع والأعراف والتقاليد. لم تكن أي تظاهرة في أي دولة أخرى قد سجلت حالات إنسانيَّة تكافليَّة قويَّة كما سجلت التظاهرات العراقيَّة التي مثلها المحامي والطبيب والمدرس والعامل والطالب والطالبة والكاسب وغيرهم. إنها وقفة ملحميَّة إنسانيَّة تاريخيَّة يؤشرها التاريخ ويقف لها إجلالاً حين نرى التعاون العراقي النادر وهو ليس غريباً أبداً. إنه شعبٌ عظيمٌ بامتياز لأنه يستطيع صناعة الحياة في كل الظروف مهما كانت صعبة ومهما كان حجم التحدي. إنها ضريبة يدفعها العراقي وهو يخرج مع غيره لساحات التظاهر السلميَّة، ضريبة حب البلاد التي يحملها بين ضلوعه وبين جوانحه وهو يحقق أنشودة الحياة ويرسم تفاصيلها ويكتب حروفها ويمنحها لحناً مميزاً أكثر شغفاً وحباً بالبلاد التي لا يسمح أبداً بأنْ تذهب مع الريح أو الى المجاهيل أو الى الفوضى. فهو مدافعٌ عنها بالغريزة ولا يقبل لأحد أنْ يجرها الى الويل والألم والخسارة.
إنَّ الوقفة التاريخيَّة في تظاهرة الحقوق والمطالبات المشروعة والتي كفلها الدستور، سوف تمنح درساً جديداً للوئام والإصرار على التوحد وصنع المعجزات بين العراقيين كافة من خلال الكرم الباذخ الذي سجلته القلوب المُحبَّة لبلادها.