العلّة ليستْ بالسياسة بل بإدارة هذه السياسة، وبقدرتها على تأمين شروط عقلانية ونقدية لحماية مشروع الدولة الوطني ومسار الاجتماع العراقي، لاسيما أنّ التراكمات السياسية في العراق صارت مصدرا للازمات، والصراعات، ولكثير من المكاره الاجتماعية كالفساد
والرثاثة..
الحديث عن ادارة السياسة يتطلب ايضا جملة من الفعاليات والسياقات التي قد تُطهّر هذه السياسة، وتجعل من الادارة مؤهلة للتعاطي مع ملفات معقدة، مثل المحاصصة والترهّل والرثاثة والفقر والعجز والهدر في المال العام، فضلا عن "المسكوت عنه" في النظام السياسي العراقي، على المستوى الخيارات الديمقراطية، في الادارة، وفي الانتخاب
، وفي قانون الانتخاب، أو على مستوى صياغة العقد السياسي، والانخراط في المسؤوليات السياسية الحزبية والمدنية، وفي حماية الاجتماع العراقي وتنوّعه الهوياتي والطائفي والقومي، وهي قضايا إشكالية من الصعب ضبط ايقاعها من دون تغطية قانونية، أو دون هياكل مؤسسية فاعلة
وحقيقية.
من أكثر أسباب الاحتجاجات والتظاهرات في عديد المدن العراقية هو الاخلال بالادارة السياسية، ليس لضعف المهنية والخبرات، بل لأنّ المحاصصة السياسية قسرت مفهوم الادارة، وحوّلتها الى محاصصات في كل الميادين التي تمسّ الأمن المجتمعي والاقتصادي، حتى بات العنوان الطائفي هو تعمية عن التحاصص السياسي الحاكم لثروة البلد ولأنماط إدارته في المحافظات
العراقية..
ثنائيّة الفشل والنجاح..
النجاح الكبير في ادارة الملف الامني، وفي التعاطي مع الارهاب والجماعات التكفيرية لايعني نجاحا كاملا في ادارة الملفات الاخرى
، وأن أيَّ اهمال أو غفلة عن تلك الملفات سيكون سببا في اعادة انتاج الملف الامني مرة أخرى، لأنّ العنف والارهاب ينتعش في الأزمات، وفي بيئات الفقر والجهل والتهميش، وهذا مايستدعي البحث عن مسارات أخرى داعمة وساندة للنجاح في ادارة الملف السياسي والملف الاقتصادي بوصفهما القاعدة المادية للنجاح في الملفات الأخرى، وفي تأمين شروط انضاج المشروع الديمقراطي والتنموي
الوطني.
ثنائيّة الفشل والنجاح ترتبط بالانجازات التي تحققها مؤسسات الدولة، لاسيما السلطلتين التشريعية والتنفيذية، فما جرى خلال السنوات الماضية يعكس اللانسجام بين تلك السلطات من جانب، فضلا عن سوء ادارة الملفات السياسية والخدماتية من جانب آخر، وهو ما أسهم في خلق بيئة سياسية تتسم بالعطّالة وبالتوتر الدائم، وبعديد المشكلات التي انعكست على عمل مجلس النواب وعلى الحكومة المركزية وعلى الحكومات المحلية، حتى باتت بعض المحافظات تعاني من ازمات عميقة، ومن صراعات بين كتلها السياسية، الأمر الذي أساء الى عملية ادارة الملفات، والى تعطيل المشاريع الستراتيجية، والى استشراء ظاهرة الفساد، والى مظاهر فاضحة لهدر المال العام..
التظاهرات الشعبية تعكس في جوهرها ردّة فعل على تضخم سوء ادارة تلك الملفات، والفشل في التعاطي مع مُخرجاتها، وفي عجز القوى السياسية على النهوض بالمسؤوليات السياسية والتنموية والادارية، وعلى مواجهة التحديات الكبرى التي تعيش تداعياتها القوى السياسية الفقيرة في خبراتها، وفي نظرتها القاصرة لتداولية مفاهيم الدولة والمجتمع والمؤسسة والنظام الديمقراطي والحرية والشراكة وغيرها.
إنّ رهان النجاح هو الرهان على سياسات عقلانية وواقعية يمكنها التصدي للأزمات
، والعمل باتجاه وضع الآليات والخطط والبرامج التي من شأنها تجاوز عقد الفشل والفاشلين، والفاسدين، والذين وجدوا في سوء الادارة فرصتهم بتجذير نفوذهم وسلطتهم، وعبر واجهات متعددة، من خلال سوء البرامج الانتخابية، والفشل في برامج الرقابة، وفي متابعة اسباب هدر الماء العام، وتعطيل كثير من المشاريع
الستراتيجية..
الحلول والآفاق
ما أثارته التظاهرات الشعبيّة من وقائع، ومن أسئلة وضعت الجميع عند حافاتٍ حادّة، وعند مشكلات معقدة، فهذه التظاهرات الحاشدة كشفت عيوب النظام السياسي، وسوء ادارته منذ ستة عشر عاما، وعن تغوّل غرائبي لنمط من الحكم الذي تديره قوى سياسية لا تؤمن بالمستقبل، ولا تؤمن بالدولة المدنية ولا بالحداثة، وهو ما يعني تورطها بصناعة خطاب سياسي يتسق ومصالحها ومرجعياتها
الايديولوجية.
الحديث عن الحلول يعني الحديث عن وجود القوى الفاعلة التي تؤمن بجدوى تلك الحلول، وبالقدرة على مواجهة التحديات، وعلى النظر بمسؤولية الى المستقبل، وعلى وفق خطط عملياتية وبرامج قابلة للتنفيذ، تنطلق من الحاجات والاستحقاقات، ومن تأمين فرص حقيقية للحوار السياسي والثقافي، إذ أنّ غياب هذا الحوار او تعطيله، سيكون سببا في انتاج مزيد من الازمات، ومن التظاهرات الكبرى التي تتسع مع طموحات الارادة الشعبية الباحثة عن التغيير، وعن تأمين سياقات عمل صحيحة
للنجاح..
لا حلول حقيقية دون وجود ارادة فاعلة، ولا نجاح لهذه الارادة دون وجود قوى تؤمن بفعل التغيير، وبفعل المواجهة، وبالقدرة على صياغة أطر سياسية واقتصادية لادارة الملفات الوطنية الستراتيجية، بما فيها الملف السياسي والملف الاقتصادي والملف الامني، وبالاتجاه الذي يتعزز فيه المسار الديمقراطي للدولة، وتتعزز فيه المؤسسات الحاكمة، ومنها المؤسسات الصحية والخدمية والتعليمية، ومؤسسات الضمان الاجتماعي، والتي تعاني من اهمال وعجز كبيرين، لاسيما في المحافظات التي عانت من ظروف الارهاب، أو من ظروف تعطيل ارادتها في التخطيط وفي
التنفيذ..
إنّ استمرار التظاهرات مع بطء الاجراءات الرسمية، مع مواقف "انتهازيّة" لبعض القوى السياسية سيُزيد من تفاقم المشكلات، ومن تيسير الفرص الحقيقية لمعالجتها، ولوضعها في السياق الزمني الصحيح، وفي اطار حزمة البرامج التي يمكن أن يقوننها مجلس النواب، وأن تقوم بتنفيذها السلطة الحكوميّة، وضمن سقوف زمنية معلومة وواقعية، وهو مايمكن أن يضع تصورا للتعاطي مع هذه المشكلات، مثلما يرسم آفاقا لحلول آنيّة ومستقبليّة، وعلى وفق برامج تكفل مشروع الدولة بعيداً عن وسائل وظروف الاكراه والضغط وسياسات الطوارئ...