يُخطئ من يعتقد أنّ المنظومة السياسية - اي منظومة- تبقى بمنآى عن التأثر بالحراك الشعبي، مهما أمعنت في حماية نفسها، لاسيما الحراك السلمي، الذي يُجرّد هذه الطبقة من أي أداة لحماية مصالحها، بلحاظ ما شهده العراق ومنذ مطلع تشرين الأول 2019 من حراك جماهيري غير مسبوق، كان له الاثر الكبير والواضح في تغيير مستوى التفكير والاداء والتصرّف لدى الطبقة السياسية بنحو عام، وقد نجحت التظاهرات السلمية التي شهدتها العاصمة بغداد وعدد من المحافظات من إماطة اللثام عن الكثير من الملفات التي لم يكن احد يتجرأ في الحديث عنها او الخوض في تفاصيلها.
ولكن عندما هب الشعب، مطالبا بالتصحيح، او حتى التغيير ان اقتضى الحال، كانت الاستجابة من الطبقة السياسية واضحة، وإن لم تكن بمستوى طموح الناس، وبصرف النظر عن قناعة هذه الجهة السياسية او تلك بمطالب الشعب، الا ان الجميع ادرك ان نظرية (الشعب مصدر السلطات) مازالت نافذة ولم يُجمّد العمل بها كما يشيع البعض !..
نعم، ان الاستجابة لم تكن بمستوى مايريده الشارع، الذي بدأ يرفع سقوف المطالب إلى اعلى المستويات، ولكن في المجمل، ان هناك استجابة، ما يعني ان الشباب الذين تظاهروا بقوة وثبات، حققوا عدة أهداف ذهبية، جاءت نتاج حركة ولعب نظيف، اثبت فيه الشباب العراقيwون، انهم كانوا ومازالوا وسيبقون، يمتلكون مفاتيح اللعب والتغيير حيثما وجدوا ضرورة لذلك، ومن اجل ذلك، فهم على استعداد لبذل دمائهم، لتحقيق التغيير الذي
يريدون..
أما إذا اردنا استعراض الأهداف التي حققتها التظاهرات، فلعلنا نشير هنا إلى ان اول الأهداف، تمثل بتشكيل لجنة برلمانية تضم خبراء ومعنيين من مختلف الاختصاصات للعمل على التعديلات الدستورية المطلوبة التي لم تتمكن الطبقة السياسية من الخوض في هذا المضمار بسبب تقاطع المصالح والآليات المعقدة التي تضمنها الدستور لتعديله، واعتقد ان لجنة التعديل هذه، مُلزمة بإنجاز مهمتها مهما كلفها الأمر، وان تحقق التعديل فإنّ مشاكل كثيرة سيجري معالجتها،..
أما الهدف الثاني، وهو هدف ذهبي بامتياز، فتمثل بالخطوة التي توافق عليها الجميع "مرغمين" بخفض مستويات الرواتب المتضخمة للنواب والوزراء والدرجات الخاصة، هذه الامتيازات التي سُنّت في ليلة غاب فيها القمر، وباتت تستنزف الكثير من الموازنات، ولم يكن بالامكان الخوض فيها مطلقا، أما الان فقد وافق الجميع على الأمر، ومعنى ذلك ان شيئا من العدالة الاجتماعية سيتحقق في العراق، وتحقيق العدالة، سيؤدي إلى خلق حالة من الرضا لدى الناس، وهذا كله بفضل التظاهرات الشعبية، وبالانتقال إلى الهدف الثالث، فسنجده متجليا في تمرير التصويت على مجلس الخدمة الاتحادي، الذي نام طويلا في ردهات السلطة التنفيذية والتشريعية، ولكن نتيجة الضغط الجماهيري الهائل جرى التصويت على رئيس وأعضاء المجلس الذي سيكون له دور مهم في ضبط إيقاع الوظائف الحكومية التي شهدت خلال السنوات الماضية الكثير من التلاعب والتحاصص ما أفقد الكثيرين فرصة الحصول على درجة وظيفية وفقا لمعيار الكفاءة
والاختصاص..
وحققت التظاهرات هدفا رابعا، كان وقعه كبيرا، عندما أدانت الحكومة نفسها من خلال النتائج التي توصلت اليها اللجنة التحقيقية الوزارية بعد الموجة الاولى من التظاهرات، فلعلها المرة الاولى في تاريخ الحكومات العراقية، ان تدين حكومة نفسها، وتقصّر أدواتها التنفيذية، لدرجة ان بعض المناوئين للحكومة، استغربوا ذلك والبعض استنكر الأمر ..
وعندما نصل الى الهدف الخامس فنجده واضحا في تجريد القوات الأمنية من أي سلاح ناري، ويبدو ذلك واضحا من خلال مشهد رجال الشرطة المنتشرين في شوارع العاصمة وهم لايحملون حتى مسدساً، ما يعكس شعورا بالاطمئنان لدى الناس ان مبدأ (الشرطة في خدمة الشعب) مازال سارياً.
ويتجلّى الهدف السادس، بأنّ التظاهرات، أفرزت شبابا يمتلكون قدرات هائلة، فمن يتابع أداء هؤلاء الشباب عبر اللقاءات التلفزيونية او من خلال التواجد في ساحة التظاهر، يلمس مستوى النضج الفكري والقدرة على التغيير بطرق وأساليب ديمقراطية، وأنا أقف إجلالا لذلك الشاب الذي يقول "نحن أبناء العملية الديمقراطية، وليس من العقل ولا المنطق ان نسعى إلى تقويض او إسقاط هذه العملية التي ضمنت لنا حق التظاهر والمطالبة واجبرت الحكومة على الاستماع لنا، إنما الذي نريده هو تعديل مسارات هذه العملية ومحاربة المحاصصة المقيتة التي أفقدتنا الكثير من الأشياء الجميلة"..
نعم، ان الأهداف التي تحققت بفضل الحراك الشعبي كثيرة ومهمة، وهي لم تُسجل بسهولة، إنما جاءت ممهورة بدم شباب أحبة فقدناهم من المتظاهرين والقوات الأمنية، وعزاؤنا فيهم، ان دمهم لم يذهب سدى، إنما أزهر مشاريع إصلاح سيشهد العراقيون آثارها في القريب العاجل ..
الرحمة والخلود للشهداء، والشفاء العاجل للجرحى والمصابين، وحمى الله العراق وأهله من كلّ سوء ..
(وللحرية الحمراء باب ، بكل يد مضرجة يُدق).