المخاضات التي مرّت بها المجتمعات العربية – بما في ذلك مجتمعنا – من عدّة أعوام الى يومنا، تتمخّض عن وعي جديد، واحيانا غير مسبوق، في حالة هي بطبيعتها غير مسبوقة. صحيح ان مواضيع الاستبداد والديمقراطية والفساد وشظف العيش ومتطلبات النمو والازدهار والحياة الكريمة، كلّها مواضيع لها جذورها في تاريخنا وتاريخ البشر، لكنّها لم يسبق أن طرحت او أثارت من المواجهات والتفاعلات مثل ما جرى في الأعوام الأخيرة في عالمنا العربي لأسباب عدة نتناولها هنا.
فمع كلّ موجة جديدة من الاحتجاج ينمو الوعي العام. وأن يسقط نظام استبدادي فذلك خطوة للامام، لكنّها تثير بدورها أسئلة ملحة وعاجلة: كيف سيتمّ ملء الفراغ السياسي؟ ما صيغة الديمقراطية الملائمة؟ كيف يتوجّب التعامل مع بقايا الانظمة الاستبدادية وشبكاتها المتنفذة سياسيا واقتصاديا؟، أسئلة وتحديات كهذه وغيرها تزج الاشكاليات النظرية والمواضيع المتعارفة في واقع الممارسة السياسية. لأنّ الحاجة أمست الى حلول محددة وصيغ ملحّة للواقع الفعلي، وهذا فارق كبير عن تاريخ هذه المجتمعات.
وهذه الممارسة السياسية، بكل ما يكتنفها من شد وجذب ومساومات وتنازلات وصدامات، أشبه بمدرسة حقيقية للمجتمعات تتعلّم وتتعوّد وتعي فيها ما ظلَّ طويلا في خانة الافتراضات والاحتمالات لا غير. وفي المعاناة التي لا بدَّ أنّ ترافق كل ذلك، بما في ذلك التضحيات والخسائر البشريّة، فإنّ هذا الوعي الجديد سيكون معمّداً بالدماء، وهو ما يجعل رسوخه في فكر وروح المجتمع أكثر تجذرا وثباتا.إنّ الأنظمة الاستبدادية، بطبيعتها، تجعل من الحياة السياسية غائبة او شبه غائبة، ومن ثمّ فإنّ سقوط هذه الانظمة لا بدَّ أن يولد "فراغا سياسيا"، وهذا مختلف كثيرا عن المجتمعات التي فيها حياة وتقاليد سياسية ديمقراطية حية وعريقة ومترسّخة. فسقوط حكومة ومجيء غيرها جزء من حركة عاشتها هذه المجتمعات في خبراتها وتجاربها المتراكمة. وبعد سقوط الانظمة الاستبداية، تظهر عادة اسئلة البديل والتعامل مع بقايات تلك الانظمة كما ذكرنا، وبعد هذه المرحلة - اذا ما وصلت المجتمعات الى درجة من النجاح في ذلك - تظهر مشاكل الفساد المتراكمة واقعيا واخلاقيا الى الواجهة بوضوح اكبر. فالانتفاض ضد الفساد بات لا يقل اهمية في الوعي العام العربي – لا العراقي فقط – عن مواجهة الاستبداد. وديمقراطية تخلو من العدالة الاجتماعية، لن تكون اكثر من "سوق حرة للاصوات" (كما يقول شومبيتر) تعيد توليد نفسها بصيغ جديدة، بمعزل عن الواقع الفعلي الذي تعيشه القاعدة العريضة من الشعب. لقد حدثت على امتداد العقود الماضية في عالمنا العربي في القرن العشرين الكثير من الثورات والانقلابات والانتفاضات، ولكن أيّاً منها لا يشبه تلك الحركة الاحتجاجية الجارية منذ أعوام الى يومنا الحالي. ذلك انها تجري في القاعدة الاجتماعية أولاً، ولأنّها ذات طابع استمراري يمتلك مقومات هذا الاستمرارية. وطاقة الاستمرارية هذه التي تمتاز بها الحركة الاحتجاجية السياسة المعاصرة في عالمنا العربي (وفي اجزاء اخرى من العالم ايضا) تمد جذورها في طبيعة العصر نفسه: عصر العولمة والاتصال والتواصل والاجتماعي. وهو ما يجعلها ذات دينامية ذاتية، بعيداً عن الانقلابات العسكرية او الانتفاضات المتقطعة التي تظهر لتختفي طويلا كما كان يجري في السابق. ففرد واحد، فضلا عن جماعة او مجموعة جماعات، اصبح يمكن ان يكون عنصرا فاعلا لاطلاق شرارات الاحتجاجات الشعبية وديمومتها، بحكم القدرة على تفعيل المزاج الاحتجاجي او الثوري لدى الجموع العريضة. السلطات نفسها من جهة أخرى، بوجه عام، اصبحت تعي اكثر واكثر ان الانقلابات العسكرية التي كانت تغيّر أنظمة الحكم عقودا من الزمن، مضى وقتها، وحتى هالة العرش والسلطة التي طالما ظلت الجائزة الأثمن للملوك والأمراء والرؤساء والحكام المستبدين لقرون وعقود، لم تعد بتلك "الجاذبيّة" في عصر جعل منها قابلة للانطفاء او الاستبدال بسهولة أكبر بكثير، في عالم تغيّر سريعا وما يزال.وعنصر "المقارنة" عنصر مهم جدا، ويكاد يكون حاسما في توليد حركة الاحتجاج وابقاء ديناميتها الحركية، رغم بعض التقطعات. فبحكم وسائل الاعلام الحالية التي جعلت العالم "قرية صغيرة" كما يقال، فإنّ عنصر المقارنة بين احوال المجتمعات واحوال سواها، لا سيما الاكثر تقدما، باتت مثل سؤال يومي يتكرر في هذا الوعي، وهو يتطلع الى مجاراة تلك المجتمعات الأكثر تقدما ولو في شيء بسيط. وكل هذا كان غائبا الى حدٍّ بعيدٍ في عالم القرن العشرين قبل ثورة الاتصالات والإعلام التي تغلغلت عميقاً لتغيّر من طبيعة الشعور بالواقع سواء على مستوى الأفراد او بين الجماعات والمجتمعات والشعوب.