لو كان الزعيم الهندي غاندي حيّاً لصفق كثيراً لشعار سلميّة سلميّة. ولتعاطف مع المتظاهرين الى أبعد الحدود. ومع ان احداثا مؤسفة وقعت هنا وهناك الا ان الاطار العام للتظاهرات يغلب عليه شعار السلميّة التي يصرّ المتظاهرون بالتمسّك بها. منذ انطلاق التظاهرات في الأول من تشرين. وقد يلفت نظر غاندي شيءٌ آخر، هو ذلك الانسجام الجماهيري البعيد عن كلّ المسميات ما عدا العراق ممثلا بعلمه الشامخ. ومثل هذه الوحدة الرائعة لجموع المتظاهرين تعطي رونقا للحراك السياسي الجديد الذي تقره الحكومة وكفله الدستور ايضا.
إذن السلميّة خيار اخلاقي بالدرجة الاولى وهو يعني ان لا احد يريد أن يخرّب مؤسسات الدولة او الممتكات العامة والخاصة. وحين نتحدث بهذه اللغة فإنّنا نشير بالتأكيد الى أسلوب غاندي في اللاعنف. ومدرسة اللاعنف تعني انضباط الجماهير وعدم انسياقها وراء الحماس الذي يخرّب كلّ شيء.
بالتأكيد هي ليست صدفة أن تلتقي سلمية ساحة التحرير بلا عنف اسس له احد اعظم زعماء العالم نكرانا لذاتهم.
إنّ لسلميّة التظاهر مذاقا خاصا ينبع من رمز واحد هو العلم العراقي الذي رفعه الجميع باعتزاز كبير. ولعل هذه الفكرة وصلت الى الحكومة باعتراف الرئاسات الثلاث الذين قالوا منذ اليوم الاول من تشرين ان رسالة المتظاهرين وصلت.
السلميّة على اية حال هي منهج سياسي يعتمد على تقدير كبير للحياة، ورغبة قوية للتغيير دون اراقة الدماء. ومن المحزن ان يسقط شهداء وجرحى في ظل هذا الحراك الاخلاقي الرائع.
أظن ان فيلسوفا آخر سيعجب بهذه العفوية الجماهيرية التي يشهدها التحرير وساحات الاعتصام الأخرى في المحافظات.
روسو لن يكون أقل إعجابا من غاندي لو انه كان معاصرا لهذه التظاهرات المطالبة بالحقوق والعدالة ومحاربة الفساد. ولو تخيلنا روسو جالسا في غرفته وأمام إحدى الفضائيات وهو يتابع مجريات وفعاليات ساحة التحرير وهتافات الجماهير فسيقول جازما إنّه أمام ارادة شعبية عامة تحاول ان تسمع الحكومة بما تطالب به.
قال روسو دائما بأنّ من يحكم ومن يسن القوانين هو الشعب وليس الملك. واشار روسو الى ان الارادة العامة هي من تقول كلمتها في مقابل القانون الموجود الذي قد يتطلب تعديلا لمصلحة الجميع. وهذا ما نراه ونسمعه يومياً يقال ويطرح أمام الفضائيات وفي الشعارات المرفوعة.
لا أحد يسعى لخراب لا يمكن اصلاحه بسهولة. وفي اطار القانون سيكون كلّ شيء قابلا للحل. وبالعودة الى روسو ووجهة نظره عن ارادة عامة تسعى لتغيير قانون او هيئة فلن يكون ذلك مستحيلا. ويبدو ان الحكومة تحاول ان تقوم بأخذ وجهات نظر المتظاهرين من خلال ما تسميه بحزم الاصلاح التي لا ينظر اليها متظاهرو ساحات الاعتصام بجدية كبيرة بسبب انعدام الثقة. وقد اشار عبد المهدي الى أنّ من الضروري إعادة الثقة بالحكومة كي تشرع باصلاحاتها. لكن كيف تعاد الثقة.؟
من المؤسف أنّ روسو في كتابه العقد الاجتماعي لم يتطرّق الى اعادة الثقة بالملك، وانما الى إعلاء شأن الارادة العامة على إرادة الملك.