سياسة التوظيف.. ومتطلبات التنمية

آراء 2019/11/22
...

عبدالزهرة محمد الهنداوي 
 
قبل عام 2003، كان عدد موظفي الدولة العراقية، لايتجاوز الـ (600) ألف موظف في جميع الوزارات، وكان العراق في تلك الفترة، لاسيما في عقد التسعينيات يشهد عزوفا غير مسبوق عن الانخراط في الوظيفة الحكومية، نتيجة بؤس الرواتب التي لم تكن تتجاوز الـ (3) آلاف دينار، في وقت كان سعر طبقة البيض مثلا (4) آلاف دينار،  ويومها، كان الموظف الحكومي موضع تندر وتهكّم من قبل الآخرين، حتى ان البعض كان يصفه بالساحر العجيب، فكيف يكون بإمكانه أن يسيّر شؤون حياته
بـ (3) آلاف دينار فقط.
لذلك، ولهذا انتشرت مظاهر الرشوة ودبّ الفساد في مفاصل كثيرة، وان كان بنحو خفي.. ولكن بعد التغيير الذي شهده العراق عام 2003، انفتحت افاق كثيرة، ومازال الموظفون يتذكرون الأشهر الاولى من ذلك العام عندما تسلّموا  رواتبهم بالدولار الاميركي، وقد تسلّم كل واحد منهم ما لايقل عن (200) دولار، ولنا ان نتصور هذا الرقم  الفلكي! 
مقابل (2) دولارين فقط، كان مقدار رواتبهم قبل التغيير.. تحسّن الرواتب هذا، فتح افاقا رحبة للحياة، فقد بدأ الموظفون يحيون حياة مختلفة، ويلبّون حاجات كثيرة كانت مؤجّلة لأعوام طويلة، وهنا اختلفت نظرة المجتمع للموظف والوظيفة الحكومية، وبدلا من حالة العزوف السابقة، دارت (الكاميرا) الى الخلف 
بـ (180 درجة)، لنشاهد ذلك الإقبال غير المسبوق على التوظيف.
فقد باتت الوظيفة حلما يراود الشباب، مقابل ذلك، كانت السياسة الحكومية قد اعتمدت مبدأ المزيد والمزيد من تضمين الموازنات السنوية مئات الآلاف من الدرجات الوظيفية، وبما لايقل عن (200) الف درجة وظيفية سنويا، وما هي الا سنوات قلائل حتى تضاعفت أعداد موظفي الدولة الى ثلاثة او أربعة أضعافها عما كانت عليه قبل 2003، ومما لاشك فيه ان هذه السياسة أسهمت في خفض نسب البطالة الى اكثر من 
(50 %) خلال سنوات قليلة، ففي عام 2007 كانت النسبة نحو (30 %) انخفضت الى (15 %) عام 2010 ثم الى (10 %) عام 2013 ، ولكن مقابل ذلك، فثمة آثار سلبية نتجت عن هذه السياسة، ومن ذلك مثلا، انخفاض نسبة إنتاجية الموظف العراقي الى ادنى مستوياتها.
فقد اشارت بعض الدراسات، الى ان إنتاجية الموظف في اليوم الواحد لاتتجاوز  الـ (20) دقيقة من اصل (8) ساعات عمل!!.. ليس هذا وحسب، إنما تسبّب هذا التضخم الهائل في الجسد الحكومي الى ثقل وبطء الإجراءات والحركة، وازدادت مستويات البيروقراطية والروتين في مؤسسات الدولة بنحو كبير، وعندما نتحدث عن الجانب التنموي في سياسة التوظيف، فإننا سنجد ان كتلة نقدية هائلة ليس فيها أي مخرج تنموي، يتمّ صرفها سنويا، من أجل تأمين الإنفاق الاستهلاكي والتشغيلي، الذي تمثل الرواتب والأجور، المساحة الأوسع في هذا الجانب، فعندما نتحدث مثلا، عن نحو (59) ترليون دينار هو مجموع الرواتب والأجور لعام 2018، فلنا أن نتصوّر قوة وتأثير هذه الكتلة النقدية الهائلة لو انفقت في مجال التنمية، إلّا أنّها تبقى من دون مخرجات تنموية لكون ان انفاقها ينحصر في تأمين الحاجات اليومية، من مأكل وملبس ومشرب ومتطلبات
أخرى.. 
قد يكون الحال قد اختلف كثيرا بعد عام 2014، فقد قررت الحكومات إيقاف التعيين جراء الظروف الاقتصادية الصعبة، الأمر الذي تسبّب في رفع معدلات البطالة الى نحو (14 %). 
ولهذا كانت احدى مطالب المتظاهرين في كل التظاهرات التي شهدها العراق منذ عام 2015 وما تلاها، وقبل ان تتحول الى مطالبات سياسية، هي إطلاق التعيينات لاستيعاب الأعداد الكبيرة من الخريجين الذين يدخلون الى سوق العمل سنويا والذين لاتقل أعدادهم عن (150) الف خريج في كل عام، يضاف لهم الشباب من غير الخريجين الذين يبلغون سن القدرة على العمل (15) سنة .. وإزاء هذه الضغوط، وخصوصا في ظل التظاهرات الحاشدة التي يشهدها العراق منذ الأول من تشرين الأول، كان مجلس النواب والحكومة، تسعى الى ايجاد حلول ومعالجات، يمكن من خلالها توفير فرص وظيفية جديدة للشباب، فكان نتاج ذلك، تعديل قانون التقاعد،  هذا التعديل سيوفر، ما لايقل عن (200) الف درجة وظيفية عام 2020، وربما اقل من ربع هذا العدد عام 2021، ثم تبدأ الأعداد تتناقص بعد عامين او اكثر .. فما الذي سيحدث بعد ذلك؟ 
هل سنكون على موعد مع تظاهرات جديدة ينتج عنها تخفيض سن التقاعد الى 35 سنة مثلا، لاتاحة المزيد من فرص العمل؟! .. سيبقى السؤال يتردد صداه دائما، يرافق ذلك، ان كل الإيرادات التي يحصل عليها البلد من النفط، ستبقى من دون مخرجات تنموية، لاننا نبيع النفط لنأكل، أما البناء والتنمية، فسيبقى رهن الانتظار، ريثما يتغير الحال، وتصبح لدينا موارد أخرى في الزراعة والسياحة والصناعة، والضرائب وغيرها، وحتى ذلك الحين، الذي قد يطول انتظاره، ما الذي ينبغي القيام به، لحل مشكلة متنامية من هذا النوع؟..الحل بتقديري، هو خلق قطاع خاص عراقي، جريء وممكن، والتمكين هنا المقصود به تقنين هذا القطاع من خلال حزمة من الإجراءات والقوانين التي تنظم العمل، وتضمن حقوق العاملين فيه أسوة بنظرائهم من موظفي القطاع العام، لان احد اهم أسباب العزوف عن العمل في القطاع الخاص، على الرغم من ان رواتبه افضل، هو غياب الضمانات، والعامل فيه يبقى عرضة لإنهاء خدماته في أي لحظة قد يختلف فيها مع ربّ العمل، فإذا توفرت مثل هذه الضمانات، وشعر الموظف بالاطمئنان والاستقرار، فعند ذاك، يتغيّر المشهد، وتدور (الكاميرا) دورة جديدة، لنشاهد حجم الإقبال على القطاع الخاص، وقطعا ستكون هناك هجرة عكسية نحو هذا القطاع من نظيره القطاع العام.. ليس هذا وحسب، إنما نحتاج الى فتح افاق واسعة للاستثمار الأجنبي في جميع قطاعات التنمية، لتحقيق نهضة تنموية حقيقية، ويقينا ان العراق يعد بيئة بكر للاستثمار في مختلف المجالات، فان تحقيق مثل هذا المناخ الاستثماري الإيجابي، سيوفر ربما الملايين من فرص العمل المعتبرة، وعند ذاك، سنكون أمام أزمة عمالة، قد نضطر ازاءها الى استيراد الأيدي العاملة من الخارج لسد النقص.