إذا انطلقنا من المفهوم العام للاحتجاج الذي يؤكد الأخذ بالحديث كدليل على إثبات أو إنكار حكم معيّن يتعارض مع مصالح المجموع العام، فإنّنا نكون أمام ظاهرة عراقية لها من الأنماط التي خرجت بها على خلاف لكل أنواع وأشكال الأنماط السابقة التي مارسها الشعب في احتجاجاته القديمة منها والراهنة.
جينات جديدة
أعتقد بوجود تغيّرات كبيرة أو ما يسمّى بالطفرات التي تحدث في الجنس البشري في ما يخص الجينات. فالشباب المنتفض الآن في ساحات الوطن يمتلك جينات ثوريّة تختلف عن جينات الأجيال السابقة متمثلا بروح سلميّة في غالب الاحتجاجات على عكس ما كان سائدا (منذ 1958 وما تلاها) حيث الذهاب إلى السلاح لحل وتحقيق المطالب المطروحة، علماً أنّ الحصول الآن على السلاح أسهل بكثير عما كان عليه في الفترة المشار إليها أعلاه. وهذا بطبيعته المعقدة يذهب بنا إلى حالة تتمحور داخل الحراك الاحتجاجي وهو صعوبة توقع نتائجه لأسباب عديدة منها أنه لم يزل في طور النمو والنشوء على الرغم من أنه يبدو متينا ومتماسكا وفيه روح متوثبة تتطور بتطور المطاليب. وهنا نشير إلى شكل جديد يتناسق مع الشكل العام للاحتجاج وهو انتقاله من احتجاج أسبوعي (كل يوم جمعة وهو محلي في الغالب) إلى احتجاجات يومية تتطور بشكل سريع وبإتقان وبرمجة دقيقتين. هذا الأمر يعد ضرورة كبرى، بل هو الداينمو الأساس لكل الاحتجاجات، لكن يكمن في داخله خطر مميت وهو ما تعوّل عليه السلطات الحاكمة، ألا وهو الوقت، لأنّ هذا الشكل أو الطريقة الاحتجاجية تحتاج إلى نفس طويل لأنّها تهدف في الأساس إلى تفكيك النظام السياسي، ومن ثمّ إسقاط هيمنته المطلقة الممتدة لأعوام عجاف. لذلك فإنّ احتجاجات تشرين تعد الأهم في كل الاحتجاجات في الوطن العربي لأنّها لم تكن ذات طابع محلي بل تجاوزته إلى حالة إقليمية وذات أبعاد عربية على أقل الاحتمالات. وهذا واضح ومتجسد في الشعارات التي شملت كل الساحات على امتداد الوطن، متمثلا برفض السلطة والأحزاب الحاكمة متوّجا برفض قاطع لكل تدخل خارجي والذي أبرزه التدخل الإيراني.إنّ هذا الرفض الداخلي والخارجي على حد سواء، أراه ينطلق من تصور وإيمان مطلق من أن هناك من يعمل بكل ضراوة على استهداف العراق حتى لا ينهض من جديد. ويأتي هذا الرفض تعبيرا حقيقيا عن صدق الانتماء الوطني للمحتجين، وهو الضمان الأكيد لمستقبلهم ومستقبل بلادهم، على عكس تركيبة الأحزاب المتسلطة التي تكشف ميولها وخنوعها وفقدانها للروح الوطنية متمسكة بمفاهيم الماضي كذريعة في تقوية نفوذها وسيطرتها التي فقدتها بأقل الأزمان كما جسدتها الاحتجاجات الوطنية. ومن الخواص التي يتمتع بها الحراك الشعبي هي حالة انفتاح الزمن لديه، فهو لم يحدد فترة زمنية لتحقيق مطاليبه، بل رمى بجمرة غضبه على رؤوس السلطة في التنحي والاستقالة، حتى أن المرجعية الدينية اقتربت من الحراك ووضعت سقفا زمنيا يتقارب مع أهداف الانتفاضة وهو العودة إلى البيوت بعد تحقيق كامل وصادق للمطاليب. وفي تصوري أن هذا الزمن المفتوح يقع في إشكالية كبيرة يمكن أن تستفيد منها السلطة الحاكمة بأحزابها، التي لا تفكر بالانسحاب من السلطة سلميا، فهي تميل إلى ممارسة التبريرات متمثلة برئيس الوزراء بذريعة الفراغ والفوضى وعدم وجود البديل، فضلا عن مماطلات الأحزاب وتعويلها على الزمن. ومن جانب أخرى وهو ما يخص الحراك فإن هذا الزمن المفتوح لا يمكن أن يظل ساري المفعول إلى أمد غير معلوم لأنه يتحول إلى جرثومة سياسية قد تتفاعل داخل الحراك وتؤدي إلى حالة من الخلاف داخل الحركة.
أسئلة الوجود
منذ البداية أخذت في ساحات الاحتجاجات وخارجها تقدم وتطرح الكثير من الأسئلة المهمة:
ــ لماذا المطالبة بالنظام الرئاسي؟
ــ هل هم على دراية بمفهومه وتاريخه التطبيقي؟
ــ هل هم على وعي سياسي ـ ثقافي يؤهلهم لإقرار هذه المفاهيم؟
ــ هل هم حقا البديل القيادي للبلاد؟
من خلال المتابعة الدقيقة للتطور الحاصل في الاحتجاجات يمكن بطرق ما نجد بعض الإجابات عن تلك الأسئلة المعقدة التي ترافق هذا الحراك الوطني. فشعار مثل (نريد وطن) هذا الشعار أحدث شرخا مذهلا في رؤوس كل الأحزاب من الإسلامية إلى العلمانية. وهو شعار فريد من نوعه، ويعد ماركة خاصة بالشباب العراقيين المنتفضين لأننا لم نجد له ما يماثله أو ما يقارنه في نصوص ميثاق حقوق الإنسان. وهذا سؤال كبير يقدمه الثائر العراقي للعالم. وفي مقابل ذلك تظهر علامة وخاصية جديدة وهي ما أطلق عليها خاصية عشق التحدي. فالشاب الذي يصاب يطالب المسعف بالإسراع، حين يسأله عن السبب يقول: أريد العودة إلى الساحة. هنا يظهر جواب لأسئلة كثيرة وهي أن المنتفض لم يضع نفسه في زاوية ما، بل هو دائما متواجدا في قلب الساحة معلنا بكل وضوح (عكس الأحزاب) عن سماته وخواصه من دون خوف أو تردد وكأنه يقول : الخوف لا يؤدي إلى الموت، بل هو يعيق الحياة. ندرك بوضوح من خلال اللقاءات التلفازية وعبر شبكات التواصل واللقاءات الخاصة بالشباب أن هناك سمة تتطور بشكل سريع ووصلت إلى أجمل نتائجها وهي حالة أو سمة التفاؤل، وهي عملية انتقالية من الشكوى والتظلم إلى حالة جديدة وهي رسم خارطة طريق. إنّ هذا التفاؤل صاحبه شكل تعبيري فريد هو استخدام السخرية في غالب الشعارات التي ترفع في ساحات الاحتجاج، واغلبها تستخدم الكلمات الشعبية، وهي أكثر قوة قي طريقة الرد على كل الممارسات القمعية التي تتعرض لها الاحتجاجات.