نحو ترشيد الاحتجاجات وإنضاجها لضمان انتصارها

آراء 2019/11/26
...

عبد الحليم الرهيمي

حققت حركة الاحتجاجات الشعبية منذ اندلاعها قبل نحو شهرين وحتى الان، انجازات عديدة مهمة تمثلت بتمكنها من تحقيق التفاف غالبية الرأي العام الوطني العراقي حولها، بل وفي مشاركة قطاعات شعبية واسعة في تواجدها بساحات الاحتجاج والاعتصام سواء في بغداد او في بقية محافظات ومدن الوسط والجنوب، وذلك باعتبار الأهداف والشعارات التي ترفعها هي – في غالبيتها – محقة ومشروعة، وحتى الطبقة السياسية المناهضة لها اضطرت ان تقول، ولو نفاقاً، بتلك الاحقية والمشروعية. 

واذ تمثلت تلك الانجازات ايضاً بصمود وشجاعة المحتجين ببسالة نادرة حيث قدمت مئات الشهداء والاف الجرحى، فقد تمثلت ايضاً بتحقيق الوحدة الوطنية بين المحتجين وعموم العراقيين، وبالتكافل الاجتماعي وروح المواطنة العالية بين بعضهم والبعض الاخر وبين قوى المجتمع الاخرى التي عبرت بدورها عن دعمها ومساندتها لها بمختلف تعبيرات الدعم والمساندة، وهو ما اضفى المزيد على مشروعيتها وعلى تعزيز هويتها الوطنية العراقية الجامعة.
اما الانجاز الأكبر الذي حققته الاحتجاجات خلال هذه الفترة فهو مستوى النضج السياسي المتقدم الذي عبرت عنه نخبة من الناشطين الذي يظهرون على وسائل الاعلام ويوضحون، الى حد كبير، ما تتطلع الى تحقيقه حركة الاحتجاجات والمشاركين بها في الساحات العامة.
غير أن هذا النضج المتقدم في الرؤى والطروحات التي يجري التعبير عنها تبقى، مع ذلك، بحاجة الى المزيد من النضج والترشيد بشكل اكبر للاهداف والشعارات والرؤية لمآل حركة الاحتجاجات ومستقبلها كيما تحافظ بشكل تام على سلميتها، وعدم اعطاء اي مبرر لقمعها وإيذائها بسبب تصرّفات بعض المراهقين المنفعلين والغاضبين القيام ببعض الاعتداءات وكيما تتمكن في الواقع من فرز قيادة ميدانية وسياسية مؤهلة تعبر عنها وتمثلها.
لذلك، اصبح من الواجب والحرص القول: لقد حان الوقت لان تباشر، او تواصل، حركة الاحتجاجات ونخب الناشطين المتحدثين بأسمها، او عنها، بترشيد وانضاج أهدافها وشعاراتها وممارساتها ورؤيتها لمعالجة ما يتطلبه الوضع الراهن ومستجداته وكذلك ما تتطلبه تطوراته المقبلة.
لقد أصبح ضرورياً ان تختار التنسيقيات قيادة للاحتجاجات والقيام بـ (غربة وتنقيح) الأهداف والشعارات العامة التي كان لها، ربما، مبررات اطلاقها في بداية الحراك، لكنها لم تعد كذلك بعد مرور نحو شهرين على انطلاقه، وكذلك شعارات اسقاط النظام والذي يفهم على انه اسقاط للدولة، وشعار اسقاط البرلمان وانهاء الطبقة السياسية بشعار (شلع قلع )! والتهديد بدخول (المنطقة الخضراء) وتهديد سكانها والسفارات والمؤسسات الحكومية، وكذلك شعار استبدال النظام (البرلماني) القائم بنظام رئاسي، والغاء الدستور.. والى غير ذلك من شعارات واهداف ترفعها مجموعات من المحتجين، هي اهداف وشعارات تستوجب اعادة النظر او سحبها راهناً من التداول والتركيز على الاهداف الرئيسة والضرورية التي يمكن تحقيقها تدريجياً من خلال الصراع مع الطبقة السياسية المهيمنة ومن خلال الاصرار والتمسك بسلمية الاحتجاجات ورفضها المطلق للجوء، بأي شكل من الأشكال، للعنف المنافي للسلمية.
ولصياغة الأهداف المركزية الملحة وادراجها حسب اولوياتها ينبغي التمهيد لها ابتداءً بتحديد الطريقة التي سيحسم بها الصراع ويفتح بها سبل التغيير. فإذا كانت المراهنة على انقلاب عسكري كما يرى البعض غير مرغوب بها من جهة وغير ممكنة التحقيق عملياً من جهة ثانية، وان احداث التغيير بتدخل خارجي غربي اميركي او اوربي او أممي غير مرغوب وغير ممكن ايضاً، وان التغيير بالمواجهة المسلحة بين حركة الاحتجاجات ومؤسسات الدولة الأمنية، اي عبر الحرب الأهلية، هو خيار مدمّر ومرفوض شعبيّاً ومن حركة الاحتجاجات ... يبقى الخيار الوحيد العملي والوطني المقبول والمفضل هو طريق التغيير السلمي عبر الصراع السياسي مع الطبقة السياسية التي بيدها زمام الأمور ولا تقبل بالتغيير الّا بالضغط الجماهيري الواسع والسلمي ذي النفس الطويل.
وانطلاقاً من ذلك، وبناءً على هذه الرؤية في اختيار حركة الاحتجاجات للطريق السلمي للتغيير فإن ذلك يتطلب تحقيق الاهداف التالية حسب الأولوية :
اولاً : العمل على استقالة او اقالة الحكومة الحالية باعتبار ذلك يشكل المفتاح للتداعيات الايجابية التالية للتغيير لاسيما ان هذا الهدف – الشعار قد طرح ايضاً من قبل سائرون والتيار الصدري وائتلاف النصر وغيرهم، وهنا يمكن الاستفادة من الضغوط الخارجية فضلاً عن ضغوط مرجعية السيد السيستاني.
ثانياً : يقوم رئيس الجمهورية وفق المادة (81) من دستور 2005 بالدعوة لحضور رئيس الحكومة المستقيل او المقال، مع رئيس البرلمان ورئيس مجلس القضاء الاعلى اضافة لعدد من الخبراء واساتذة الجامعات بما لا يقل عددهم عن عشرة من ذوي الاهلية والاختصاص المشهود لهم، اضافة لممثلين من الامم المتحدة يختارهم الامين العام بدلاً عن، او مع بلاسخارات، فضلا عن خمسة او ستة اعضاء من ممثلي الكتل السياسية، وما يماثلهم بالعدد من قيادة الحراك، الذين يتم اختيارها من قبل النشطاء او من مسؤولي تنسيقيات الاحتجاج، وتكون مهمة هذا الاجتماع تقييم دقيق للاوضاع، وتسمية رئيس جديد للحكومة يمكن تسميتها بـ (مؤقتة ، انتقالية ، طوارئ .. الخ ) فضلاً عن تسمية، ان امكن ذلك، اسماء حكومة مصغرة لا تزيد عن عشرة وزراء لا تتدخل الاحزاب والكتل بتشكيلها.
ثالثاً: تقوم الحكومة الجديدة وبالتنسيق مع ممثلي او قيادة حركة الاحتجاجات بتشكيل: لجان كفوءة ومستقلة لصياغة قانون جديد لانتخابات مبكرة يحدد تاريخ اجرائها بعد ثلاثة او ستة اشهر وباشراف لجنة من القضاة بعد الغاء المفوضية الحالية وانتفاء الحاجة لاخرى بديلة، مع مراقبين من الامم المتحدة، وعدا ذلك تقوم الحكومة المؤقتة بملاحقة ومقاضاة كبار الفاسدين وحتى صغارهم بشكل علني وإرغامهم على ارجاع الاموال المسروقة وقيامها كذلك بتحقيق الخدمات الضرورية الممكنة، كي يطمئن الرأي العام على سلامة توجهات الحكومة واجراءاتها.
يضاف الى ذلك تشكيل لجنة كفوءة من خبراء القانون والسياسة وبمساعدة خبراء دوليين لاجراء التعديلات الضرورية لدستور 2005 لعرضها على البرلمان المقبل ثم للاستفتاء 
الشعبي.
على ان المهمة الرئيسة الاخرى للحكومة المؤقتة التي تتقدم على بقية المهمات هي تشكيل لجان تحقيق نزيهة من قضاة مشهود لهم بالكفاءة والنزاهة لمعرفة الجناة الذين قتلوا المتظاهرين وعناصر القوات الامنية بالقنص او بالقنابل والرصاص واحالتهم للقضاء لينالوا جزاءهم العادل.
ان خارطة الطرق هذه لترشيد وانضاج مسار حركة الاحتجاجات وتحقيق اهدافها الرئيسية، هي الطريق السليم لوضع العراق على سكة التغيير السلمي وابعاد شبح طرق التغيير الاخرى غير السلمية المفترضة بشكل نهائي.