رزاق عداي
منذ سنوات دأبت مرجعية النجف الدينية على ضبط ايقاع الشارع العراقي، خصوصا مع اندلاع موجات التظاهرات قبل اكثر من عقد من السنين، فكان لها موقفها السديد دائما في مداولة الامور العامة التي تهم الناس، اي ان المرجعية اصبحت تلج المجالات الاجتماعية العامة، حتى بطبيعتها السياسية، دون التدخل المباشر للوهلة الاولى في توجيه مساراتها الاخيرة، وهذا ديدنها، في ملامسة الاحداث
وفي كل الاحوال كان تأثيرها بالغا على مجمل الحياة في المجال العام الاجتماعي في العراق، ففي الاحتدامات والمخاضات كان قولها محمولا بقوة رمزية مؤثرة على مجمل الخريطة السياسية
العراقية. ويمكننا اليوم أن نتفهم حالة الترقب والاهتمام الذي تبديه الاطراف السياسية المكونة لكل العملية السياسية، سواء لخطبة لها او بيان، فنصّ الخطبة يستقبل من قبل الساسة على الفور بحفاوة مهما كان متضمناً من تحامل على خروقات هؤلاء وفسادهم، وعلى الاغلب يؤول نص الخطبة حتى يكون متوائما مع اجندات معينة، فبعد دقائق معدودات تكون الديباجات جاهزة لتأييد الخطبة والاشادة بها، وعلى الفور تصبح خارطة طريق او ماشابه
ذلك!!!
كان رأي المرجعية حاسما عندما تتشاكل القضايا، فيكون ما تدلي به في النهاية هو ما ترسو عليه الاحوال، فمثلا كانت قضية شكل الدولة العراقية بعد 2003 شغلت مساحة عريضة من السجالات الطويلة، فكان الاحتكام اليها أمرا لا بدّ منه، فكان قولا واضحا، ولغة لا تشوبها شائبة بانها تؤيّد الدولة المدنية، وفقا لضرورات تاريخية، وقائعية، إنّ العراق يتكون من تنوعات عديدة للهويات، الدينية، والطائفية، والعرقية، فكان ان اختارت المواطنة كاساس معياري للتشكل الدولتي لعراق يحكمه القانون. لقد كان هذا الميل بهذا الشأن على مستوى عال من الاهمية ذا طابع تاريخي، وهو شعور عميق بالمسؤولية ازاء حاضر العراق ومستقبله هدفه الاساسي الحفاظ على وحدة الدولة العراقية وتكريس السلم المجتمعي. ومنذ انطلقت موجات التظاهرات في 2008 كانت لغة خطبة المرجعية تتراوح مابين التصريح والتلميح، ولكنها بكليتها تقف في معسكر المتظاهرين بادراك عميق ان صوتهم هو بجانب الحق والارادة العامة للشعب العراقي، وتكررت دائما دعوة الصلاح والاصلاح لها، حتى اطلقت بعد حين جملتها الاثيرة، المفعمة بالمرارة (لقد بح صوتنا)، للتعبير عن حالة اليأس والخيبة من جراء عملية سياسية فاسدة وفاشلة، تسمع
ولا تستجيب.
لقد أخذ الظن بالساسة، ان المرجعية ستبقى على خطها الذي سلكته بالاشارة والتلميح فحسب، ولكن تطور التظاهرات الاخيرة، وعندما بلغ السيل الزبى، واريق الدم العراقي غزيرا، كان للمرجعية موقف اخر منقطع عمّا عهده الساسة، فكان صوتا هادرا، - أن قفوا- لقد فسدتم وتغانمتم، ثمّ كانت واقعة الدم، وهذه كلها خطوط لا ينبغي تجاوزها، لقد كانت صيحة عارمة، حتى ابلغت المرجعية ان مشروع ما بعد 2003 هو في قمة اخفاقه، متهافتا، لقد فشلت الدولة في انجاز ابسط الامور، لقد كان فسادا غير مسبوق، تحاصصتم بينكم على المغانم، وتركتم الاخرين جياعا، فلا غرو ان يفتحوا صدورهم للرصاص، لقد اهملتم الدولة، وها هي تتهاوى
امامكم. إنّ خطب المرجعية، سقطت على رؤوس الساسة الحاكمين كالصواعق، اذ رفعت الاغطية عن السلطة، بل وتوعدتها بالويل والثبور، فهناك من المخبوء الذي يمكن ان يسلك لاحقا مالم تصلح الامور، وهي في مقدمتها قانون انتخابات جديد ومناسب، مفوضية انتخابات بعيدة عن المحاصصة، ملاحقة الفاسدين
الكبار.
بمتابعة بسيطة يمكن الاستنتاج بأنّ المرجعية أكثر بصيرة من كل الذين ينتمون الى من تسمّى بالطبقة السياسية الرثة، في استقبالها لايقاع مجريات التظاهراات الراهنة، وهي اكثر مسؤولية من الساسة في مقاربتها لاهداف المتظاهرين وهي الاقرب الى نبض الشارع المتنامي، وعلى دراية فائقة للارادة العراقية.