السعودية تغيّر سياستها لتعزيز مصالحها الاقتصادية

آراء 2019/11/30
...

سانجاي كابور
ترجمة: بهاء سلمان
داخل مركز مؤتمرات فندق ريتز كارلتون بمدينة الرياض، كان الحاضرون يتبادلون أطراف الحديث بشأن الحجم المحتمل لما تتأمله المملكة العربية السعودية أن يكون الإصدار الأضخم في العالم للأسهم على الإطلاق. كان هذا ما أكده ولي العهد السعودي محمد بن سلمان خلال ما جرى في نهاية تشرين الأول الماضي، وأطلق عليه "دافوس الصحراء"، وسمي رسميا بقمة مبادرة مستقبل الاستثمار، والذي عقد تزامناً مع استعدادات شركة ارامكو، العملاق النفطي السعودي، لإطلاق إصدار أسهمها يوم الرابع من كانون الأول، متوقعة جلب 25 مليار دولار كاستثمارات.
وقبل ستة أسابيع من عقد القمة، كانت الحوارات المتفائلة بحذر حول إصدار أسهم ارامكو في قمة الرياض صعبة التصوّر؛ فعندما ضربت سلسلة من التفجيرات الهائلة المصفاة الأكبر في العالم بمنطقة ابقيق السعودية خلال الساعات الاولى من يوم الرابع عشر من أيلول الماضي، برز صراع جديد بعد ساعات قلائل. وشبت النيران أيضا بمركز للحقول النفطية بمنطقة خريص، وبعد جلاء الدخان والضباب من المنشآت النفطية المتضررة، أدرك مسؤولو القطاع النفطي السعودي أنهم فقدوا 85 بالمئة من انتاجهم اليومي. ورغم سرعة تحميل الولايات المتحدة واسرائيل لإيران مسؤولية ما حصل من هجمات، ضبطت السعودية نفسها، وامتنعت عن اتهام طهران بشيء.
مثلت هذه الخطوة جزءاً من سلسلة تحركات سعودية يقول عنها الخبراء أنها تتلاقى مع رغبتها بعدم تصعيد التوترات الإقليمية في وقت تسعى فيه جاهدة الى جذب الاستثمارات لشركة ارامكو، الشركة الأكثر ربحا في العالم. وتعد تصفية أسهم ارامكو أمرا غاية في الأهمية بالنسبة لخطط الأمير محمد بن سلمان لتمويل قطاعات صناعية أخرى، وتنويع مصادر اقتصاد البلاد، بمعزل عن النفط الخام، الذي يمثل ثقل اعتمادها. لكن المستثمرين ينشدون الاستقرار والثبات، وهذا الأمر يوجد نافذة نادرة للسلام في منطقة سريعة التأثر بالأحداث مرتبطة بشكل وثيق مع النفوذ والمصالح
 الأميركية.
حققت الرياض حالة ضبط النفس بعد الهجمات على ابقيق وخريص، حتى مع تعرّضها للسخرية من قبل الإعلام الاسرائيلي، فقد كان العنوان الرئيس لصحيفة هارتز "نحن لسنا السعودية"، متشدقة بقصف قوات الدفاع الاسرائيلي سوريا رداً على اعتداء بصواريخ أطلقت من الأراضي السورية. بعد ذلك، في يوم العاشر من تشرين الأول، وعندما أصابت صواريخ ناقلة النفط الايرانية سابيتي بالقرب من ميناء جدة السعودي على البحر الاحمر، عرضت الرياض تقديم المساعدة بشكل مفاجئ، رغم اغلاق السفينة لأجهزة استقبال الاشارات وعادت أدراجها الى المياه الايرانية. وردت ايران بالمثل بشكل إيمائي، متهمة "إحدى الدول"، من دون تسمية السعودية. في اليمن، تتفاوض السعودية مع جماعة الحوثي المدعومة ايرانيا، التي يزعم مسؤوليتها عن اعتداءات ابقيق وخريص؛ وتلعب حكومة سلطنة عمان دور الوسيط في المفاوضات.
"تؤكد الاشارات الأول
ية من سوريا والعراق أن السعودية تقلل من مواجهتها لايران تدريجيا،" كما يقول افتاب كمال باشا، المحلل والاستاذ لدى جامعة جواهر لانهرو في نيودلهي، مضيفا ببدء الرياض بتخفيض التمويل للجماعات التي تقاتل الحكومة
 السورية.
ولاجل التيقن، تعد المحاولات الساعية للسلام بين الطرفين هي الأفضل حاليا، وترتبط باحتياجاتهما الآنية. ايران، على سبيل المثال، تصارع أزمتها السياسية الداخلية، مع خروج متظاهرين يتحدون سوء إدارة الاقتصاد من قبل الحكومة وسط خضم العقوبات الأميركية. ويبقى الانقسام الوجودي بين السعودية وايران، والذي يوفر أيضا الزعامة لطائفتين متخاصمتين، الشيعة والسنة، ومعركتهما الخاصة بالنفوذ الاقليمي مترسخة كالمعتاد. ويجادل الكثير من المراقبين العرب حيال تأكيدات باشا، الذين يرون وجود بصمة اميركية وسعودية في الاحتجاجات التي خرجت داخل ايران ضد ارتفاع اسعار الوقود، وما يحصل في لبنان والعراق من تظاهرات عارمة أيضا.
وتعد جهود السعودية لعزل اصدار أسهم شركة ارامكو عن التوترات الاقليمية واضحة. قمت بزيارة المنشآت النفطية في ابقيق وخريص بعد 45 يوماً من الهجمات، وعلمت إن الصواريخ استهدفت أبراج التثبيت بدقة متناهية، لكن لم تتضرر أي بئر نفطية. وتم إصلاح المنشآت خلال عشرة أيام بعد الهجمات؛ وما عدا بعض الأنقاض المتناثرة هناك، لا يوجد شيء يدل على أن مثل تلك الكارثة قد حلّت بتلك المنشآت الواقعة في عمق الأراضي السعودية الحارة والمتربة.
لا توجد ضمانات بنجاح اصدارات أسهم ارامكو، فقد قيّمت الشركة بـ1,7 ترليون دولار، بينما كان أمل السعودية بلوغها التريليونين. بيد أن عملية اصدار الأسهم والحاجة للسلام بغية اقناع المستثمرين متزامنة مع عوامل أخرى أيضا هي من تجعل السعودية تعيد التفكير بطريقتها التقليدية حيال المنطقة. وألقت السعودية بخمسين ألف قنبلة على اليمن خلال السنوات الأربع الماضية، متسببة بمقتل أكثر من مئة ألف شخص، ومع ذلك، حقق الحوثيون نجاحات على الأرض بمواجهة السعودية، وهو أمر يحرج الرياض كثيرا.
هناك سبب آخر، كما يشير نارايانبا جاناردان، الباحث في الأكاديمية الدبلوماسية الاماراتية المتّخذة من أبو ظبي مقرا لها، فهو يحدد في بحث له أن "مصداقية واشنطن وقيمتها الردعية تتضاءل ضمن منطقة مهمة للنظام الأمني المركزي للولايات المتحدة، وكذلك تتزايد المخاطر الأمنية لدول الخليج العربي، وخصوصا السعودية والامارات العربية المتحدة". 
ولهذه الأسباب، يحاول الأمير محمّد بن سلمان، الذي يبدو أنه يستعيد بعضا من صيته الذي فقده بعد المقتل البشع للصحافي جمال خاشقجي العام الماضي، يحاول الاقتراب من أعدائه المتفاوتين بالقوة لخدمة مصالحه، من الايرانيين والحوثيين. في اليمن، رعى ولي العهد اتفاقا بين الحكومة المعترف بها من قبله والمجلس الجنوبي الانتقالي المدعوم اماراتيا. أما الجزء الجنوبي من هذا البلد الممزق بسبب الحرب، والذي حكم سابقا من قبل حكومة ماركسية، لا يعرّف نفسه بتابع للخارجين عن القانون في الشمال.
وتعوّل السعودية أيضا على النفوذ الهائل الممارس من قبل الرئيس الروسي بوتين داخل المنطقة، فهو لم يساعد الرياض على استقرار أسعار النفط فقط من خلال تفعيل اتفاق لتقليل الانتاج مع منظمة اوبك، لكن تعداه الى كونه أفضل مرشح يضمن عدم إلحاق المزيد من الضرر بالسعودية، مع توجه السعوديين لانفاق المال لإنشاء اقتصاد لا يعتمد على النفط والغاز. ويأتي هذا التأثير نتيجة للدور الروسي بتبديد تهديد عصابات "داعش" الاجرامية في سوريا، ووسط تراجع النفوذ الأميركي
 بالمنطقة.
إذا ما نجحت الجهود السعودية، فلربما ستثبت قيمة اصدارات أسهم شركة ارامكو كونها تمثل ما هو أكثر من الدولارات المستثمرة في اصول الشركة، فمكاسبها ربما ستشمل انقاذ حياة الكثيرين من حطام الصراع في الشرق
 الأوسط.
مجلة أوزي الأميركية