التظاهرات والحلول الناقصة

آراء 2019/12/07
...

د.عبد الواحد مشعل
 
يمر  العراق  بحقبة تاريخية حرجة، تداعت عليه المخاطر فيها من كل صوب، فهناك مشكلات داخلية ضخمة تتصل بالاقتصاد والثقافة والتعليم والقيم ومخاطر خارجية محدقة ومتربصة به على الأصعدة كافة، وقد تداخلت المشكلات الداخلية مع المشكلات الخارجية بشكل معقد، بل ان جزءاً كبيراً من المشكلات الداخلية يعود الى تحديات خارجية بدأت تتصاعد بشكل مكثف مع الاستعمار القديم لنهب الخيرات ، ووصلت الى انتاج   ايديولوجية  متعددة لا تخدم قضية الوطن على المدى القريب والبعيد، حتى إذا ما انقسم المشهد السياسي  على أقطاب عدة  غابت  هوية الوطنية معها، مهددة النسيج الاجتماعي بالانقسام مع ازدياد تدفق ثقافة العولمة وترويج  الأفكار الجديدة التي وظف كثير منها  في خدمة  مصالح الاطراف المتعددة الذين كانوا وما زالوا  المستفيدين الوحيدين من كل مظاهر التفكك والتمزق التي أصابت النسيج الاجتماعي  وأمنه الوطني، ومع  تأثير العولمة وأدواتها الاتصالية في الثقافة العراقية  في  تفتيت مظاهر القيم الجمعية وانتقالها الى قيم فردية ما أدى الى بلورة   ظهور ثقافة شبابية عابرة لكل البناءات الايديولوجية  ، حتى بات هناك شعور وقلق عميق على هوية  البلد ومستقبله ، إلا انه من جانب اخر أصبح هناك نوع من الوعي الفريد في بناء نظام سياسي واقتصادي يتجه نحو تقديم انموذج لإشباع حاجات الإنسان الأساسية لا يلتفت الى البناءات الثقافية التقليدية، بل ان هذه الأجيال ستقدم انموذجاً جديداً من العلاقات الاجتماعية، بدءاً من الأسرة الى مؤسسات المجتمع
  المختلفة.
وهي ترسم خريطة واضحة تجمع المجتمع على مفهوم الوطنية باعتبارها تعبر عن وحدة المجتمع الثقافية، وقد عبرت التظاهرات الشعبية بشكل واضح عن ذلك في مجمل  مطالبها . 
 
استقالة الحكومة
الشيء الذي يؤسف عليه هو إراقة الدماء  والذي وضع الحكومة أمام تحد حقيقي ، ما اضطرها الى تقديم استقالتها،لتبدأ مرحلة جديدة  قد تكون أكثر تعقيداً  وخطورة إذا لم تكن هناك حلول حقيقية لازمات المجتمع ،  فتبديل  شخص محل شخص لا يحل مشكلات المجتمع ، إذا لم ننتقل الى مناقشة مشكلات المجتمع من جذورها، فليس من اهتمام الشباب المتظاهرين أن يكون فلان محل فلان بقدر ما تكون هناك انتقالة الى مرحلة جديدة في بناء الدولة على أسس جديدة تتكافأ فيها الفرص ، وتعمل الدولة على إرساء قواعد جديدة في تدوير الاقتصاد العراقي على وفق أسس علمية تلبي حاجة الإنسان العراقي تنقله الى مرحلة من الأمل في الحياة ، فالأجيال الجديدة ازداد عددها وفرص العمل المتاحة قليلة، فضلاً عن ازدياد عدد خريجي الكليات والمعاهد دون أن توظف في خطة متكاملة تلبي حاجة السوق وتسمح باشباع حاجات الشباب، ناهيك عن أزمات الأسرة المختلفة دون أن توجد على المدى القريب والبعيد حلول لمشكلاتها، بينما تنصرف الحكومة في سياقها العام الى سياسات غير  متكاملة  بسبب عدم وجود الشخص المناسب في المكان المناسب وتفضيل المصالح الشخصية على مصلحة المجتمع، لذا بقيت المشكلات المختلفة دون حلول حقيقية بل أنها تراكمت يوماً بعد آخر.
 
حلول ارتجالية
تكمن مشكلة المجتمع العراقي في عالم اليوم  في المخاطر المحدقة بالهوية الوطنية  في عالم مزدوج في أطروحاته  يدعو الى الديمقراطية وحقوق الإنسان واحترام الآخر ويمارس في الوقت نفسه، سياسات المصالح الشخصية  على حساب المصالح الوطنية، لذا فان الأعراف والمفاهيم السياسية التي تطرحها الدولة في سياق ما يسود بالعالم الحر من دعوات لذلك دون وجود توجه حقيقي للنظر الى مصالح الشعب بقدر ما تسوقه  العولمة في الدعوة الى حقوق الإنسان حتى  بات الشباب يعي ذلك الطرح  ليعبر  برسائل إجرائية  تتعدى الطرح النظري  الى حقل جديد بات الشباب يفهمه في تحقيق نظام يلبي حاجات المجتمع ويسعى الى بلورة مفهوم جديد من تحقيق العدالة الاجتماعية تتوجه في دولة مدنية ديمقراطية يتساوى فيه الجميع  ، ما يستدعي  فهم رسالة المتظاهرين وعدم اللجوء الى  حلول ارتجالية  تزيد مشكلات المجتمع تعقيداً .
 
الدم ومرحلة جديدة
ضمن الدستور حق التظاهر وعدم استخدام القوات المسلحة والأمنية  القوة  ضد المتظاهرين ،إلا أن هذا  المبدأ الدستوري لم يأخذ مجاله الى التطبيق ،وقد برزت النزعة المتطرفة في  التصدي للمتظاهرين و ارتفاع عدد الشهداء والجرحى ، ما هو إلا دليل على الجهل الواضح  بما يريده الشباب من كرامة وعمل ووطن، 
ان ازدياد اعداد الفقراء والعاطلين عن العمل ناهيك عن ازياد مشكلات الأسرة وغياب الأمن والاستقرار، فضلاً  عن تدهور الأوضاع الصحية والتعليمية والخدمات العامة على الرغم مما يعلن من مشاريع في مجال الكهرباء وغيرها، دون  أن يحصل المواطن على شيء ، فكان  هذا  رداً طبيعياً من الشارع إزاء ذلك . 
لقد تعقد المشهد بعد إراقة الدماء، وباتت الحلول تتطلب إجراءات شجاعة تنقذ البلد من مخاطر مستقبلية ،قد تتعدى المشهد الحالي بكل تعقيداته الى مرحلة خطرة  سيدفع فيها الجميع ثمناً باهظاً،  فالمسألة تتعدى ما يجول في بال القوى السياسية من تشكيل حكومة بديلة لحكومة السيد عبد المهدي إنما يريد الشباب اليوم وجود مرحلة جديدة تقوم على تحقيق تحول اجتماعي وثقافي واقتصادي بعيداً عن الإجراءات التقليدية  ،وهي مرحلة تتطلب من الجميع نوعاً من العقلنة تكون عابرة
  للمصالح الآنية .
 ان مرحلة ما بعد الدم تتطلب حكومة ترتقي الى مستوى  متطلبات المتظاهرين بشكل عميق، فرحلة ما بعد إراقة الدم تتطلب الاتقاء في التعامل مع المتظاهرين الى مستوى حاجات الشعب الحقيقية، وعدم استخدام العنف بأي شكل كان، فالمرحلة الجديدة اليوم يجب أن تطوق فيها المشكلة بشكل واقعي قبل ان تفلت الأوضاع الى ما لا يحمد عقباه وبالتالي سيكون الجميع خاسراً .